عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-02-2006, 11:19 AM   #10
محمد العاني
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,538
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
صدق الله العظيم

من الآية (2) من سورة الحج

ريح عاصفةٌ و تُرابٌ شديد ساد الأجواء بعد عدة أيام من بدء الحرب حتى ان مدى الرؤيا أصبح 3 إلى 4 أمتار فقط. مما زاد من الروح المعنوية للعراقيين و أخذنا نتذكر كيف أن الله سُبحانهُ و تعالى نصر المسلمين على الكفّار في أكثر من موقف و أكثر من معركة و إن كان المسلمون أقل عدداً و عدّة.
في خضمّ هذه الأيام العصيبة، إلتفت قوات الأمريكان و البريطانيين حول أم قصر ليستطيعوا الوصول إلى البصرة. و كان خط الإمداد الآخر يمتد برّياً من الكويت إلى مدينة البصرة. و بدء الأعداء بحصار مدينة البصرة. و كان التكنيك العراقي في المعركة يعتمد على وضع القوات على أطراف المدن لأن حماية المساحات الواسعة غير المأهولة عملية صعبة و غير مجدية تترك القوات العراقية بدون غطاء جوي أمام الطائرات و القاصفات الأمريكية. و في هذه الأثناء كان القصف الأمريكي متواصلاً على بغداد و غيرها من المحافظات و خصوصاً البصرة. حيث أن هنالك مقولة مضحكة مبكية يقولها أهل البصرة لكثرة ما تعرّضت البصرة للحروب و القصف، يقولون أنه "لو تحدث حرب في بحر البلطيق فإن البصرة تُقصف".

دارت معارك طاحنة قرب مدينة الناصرية وسط العواصف و التراب. و كان على ما أذكر الفيلق الرابع من القوات العراقية متمركزاً هناك لحماية الناصرية. و روى لنا أحدى الأصدقاء قصصاً كثيرةً عن أخيه الذي كان أحد الأطباء المرافقين للفيلق الرابع في الناصرية. روى قصصاً عن جنودٍ أمريكان يُصابون بالهلع لأنهم فجأةً يرون رؤوس أصحابهم تتدحرج بالقرب منهم بعد أن قُطعت على يد "فدائيو صدام". و المُتفجرات التي تُزرع قرب مهاجع الأعداء دون أن يرَو من زرعها بسبب إنعدام مدى الرؤيا.
و غير ذلك كان استبسال القوات العراقية في منع القوات المعتدية من دخول المدينة. و يُروى أن تقريباً كل الفيلق الرابع قد استُشهد أو على الأقل جُرح في المعركة هذه. رحمة الله على الشهداء الذين استبسلوا في الدفاع عن أعراض المسلمين.

و بالتأكيد كانت المعارك مستمرةً في البصرة أيضاً ولكن بحدّةٍ أقل. ذلك أن البصرة مدينة كبيرة مقارنة بالناصرية. و إحتلالها سيتطلب بقاء عدد كبير من القوات فيها و معارك كثيرة لإحتلال المدينة بالكامل. لذلك إكتفى الأمريكان و البريطانيون بحصار البصرة و الإستمرار بقصفها لإضعاف إمكانية القوات العراقية المتمركزة هناك على الكرّ و الفرّ كما كانوا يفعلون.

و في هذا الوقت كانت بغداد تتعرض للقصف العنيف. و قرر والدي العزيز -حفظه الله لنا- أن نجتمع كلنا ليلاً في غرفتي لأنها كانت تقبع في زاوية المنزل البعيدة عن الشارع الرئيسي و أقلها إمتلاكاً للنوافذ. فأخذنا نفترش الأرض للنوم ليلاً جميعاً في غرفتي.
و سأروي لكم الإجرائات الإحترازية التي قمنا بها لتقليل أثر القصف. قمنا بلصق زجاج النوافذ بشكل حرف x لغرض تقليل آثار تكسّر النوافذ إذا ما قرر احد الصواريخ الأمريكية الذكية جداً الهبوط بالقرب من دارنا. و بالرغم من الريح و التراب الذي أخبرتكم عنه كنا نضطر لفتح الأبواب و النوافذ لتقليل أثر العصف الناتج من الإنفجار عليها. و إمعاناً في الإستعدادات في غرفتي قمنا بتثبيت الستائر بالمسامير على الحائط حتى إذا ما صار انفجار قريبٌ و تكسر زجاج النوافذ لا نُصاب بالشظايا أو على الأقل نقلل من الإصابات. و لم تزل آثار المسامير هذه في الستائر و في الحائط و في قلبي..
كنّا جميعاً نعلم أنّ "ما أخطأك لم يكُن ليُصيبك و ما أصابك لم يكُن ليُخطئك". ولكنك لا تستطيع أن تُقنع طفلاً صغيراً بأن لا يخاف من الإنفجار و أنه إذا ما مات فسوف يذهب إلى الجنّة..!!!

هذه كانت حياة الليل في بغداد..القصف و الإنفجارات و الدماء..و .. المزيد من الدماء..

فلأحدثكم عن حياة النهار قليلاً..
صدر أمرٌ من القصر الجمهوري (من ديوان الرئاسة) بأن تظلّ المخابز مفتوحةً ولا تُقفل. و كذلك محطات الوقود. كان الناس يخرجون للتسوق و شراء ما يحتاجون وبالتأكيد كانت الأسعار تزيد كل يوم. و من أدلة كلامي عدد المدنيين الذين قُتلوا (رحمة الله عليهم أجمعين) في منطقة "الشعب" في بغداد عندما إهتدى أحد الصواريخ الأمريكية الذكية (كرئيس أمريكا) إلى سوقٍ شعبيّةٍ فقتل منها ما يزيد على المئة شخصٍ حسب روايات الشهود. و غيرها الكثير من حوادث القصف "الذكي" جداً للمدنيين في وضح النهار.
في الأيام الأولى من الحرب، كانت صافرة الإنذار تنذر الناس ببدء الغارات نهاراً ليعودوا إلى بيوتهم ثم تعود لتعلن نهاية الغارة لتكمل الناس أعمالها. و بعد عدة أيام كانت صافرة الإنذار تعلن بداية الغارات و لا تعلن نهايتها، ثم تطوّر الوضع جداً فلم نعُد نسمع صوت صافرة الإنذار إطلاقاً..!!

كانت جدتي -أطال الله عمرها بخير- ترفض أن يخرج أيٌّ منا ليأتي بالخبز من المخبز..و ذلك لم يكُن خوفاً علينا فحسب، بل كانت تبرره بعصبية "لا زلت أستطيع المشي، عندما لا أتمكن من المشي يوماً إذهبوا أنتم إلى المخبز". و كم من مرةٍ تخرج فيها جدتي الحبيبة إلى المخبز ثم يبدأ القصف بعد ذلك فنخرج جميعاً باحثين عنها. و لطالما وجدناها تتسامر مع إحدى الجارات عن غلاء الأسعار يوماً بعد يوم.
نعم..
فقد تعود العراقيون على الحرب..حتى أصبحوا لا يُبالون بالقصف الأمريكي..!!!
__________________
متى الحقائب تهوي من أيادينا
وتستدلّ على نور ليالينا؟

متى الوجوه تلاقي مَن يعانقها
ممن تبقّى سليماً من أهالينا؟

متى المصابيح تضحك في شوارعنا
ونحضر العيد عيداً في أراضينا؟

متى يغادر داء الرعب صبيتنا
ومن التناحر ربّ الكون يشفينا؟

متى الوصول فقد ضلت مراكبنا
وقد صدئنا وما بانت مراسينا؟
محمد العاني غير متصل   الرد مع إقتباس