عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-02-2010, 02:46 PM   #49
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


الفصل الأربعون: صور الآخرين في لحظات الحرب اللبنانية: معاينات مونوغرافية ..

تقديم: أحمد بعلبكي .. أستاذ في الجامعة اللبنانية ـ بيروت
الصفحات 671ـ 682 من الكتاب

نزعم أن التنوع الديني ـ الثقافي والسياسي بلغ في المجتمع اللبناني الصغير من الاتساع والتبلور ما يجعله يوحي بالكثير من الفرضيات والخلاصات.

وفي تقديرنا أن هذا التميز في التنوع والإيحاء يعود أساساً الى الظروف التي حكمت تشكيل الكيان الطوائفي المتراتب بعد انتصار الحلفاء وتوقيع معاهدة سايكس ـ بيكو عام 1916 وبعد تسلم الفرنسيين مهمة الانتداب على لبنان وسوريا. وقد حرص الفرنسيون على إبراز انتدابهم على البلاد كمهمة لإخراجها من (الانحطاط العثماني) ولوضعها في فلك النفوذ والثقافة الفرنسيين.

وكانت الكنيسة والإرساليات الغربية المتنوعة قد لعبت دوراً أساسياً في تسويغ وترجيح هذه الثقافة ونشرها، في الأوساط المسيحية بخاصة، منذ ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن.

وأفادت تناقضات الإنجليز مع الفرنسيين في التوفيق بين زعامات الطوائف المتفاوتة في مستويات انتظامها السياسي وتأهلها وقدراتها على الحكم، فتوصلت الى ما سُمي بالميثاق الوطني. هذا الميثاق رعى استقلال البلاد وضمن للمؤسسات الطائفية مواصلة تنفذها في التنويع الديني ـ الثقافي والسياسي.

أولاً: دينامية التفارق بين العصبيات بفعل العوامل الأيديولوجية المهيمنة

لقد تفارقت في مخيلة كل لبناني من العوام صور نماذج اللبنانيين (الآخرين) ومنها: صور المسيحي (المتغرب) والمسلم (العروبي) والدرزي (المتحفظ) والشيعي (المعارض).

وتفارقت في أوساط المقيمين من غير اللبنانيين صورة نموذج الرعايا الغربيين المتحضرين على رفاه، وصورة الرعايا الأوروبيين الشرقيين المتحضرين على عسر، وصورة الأرمني الحرفي المنغلق، وصورة الفلسطيني المُقْلِق، وصورة الكردي العنيف الخ.

وفي هذا الإطار، تختلج (النحن) الأيديولوجية المثالية الكامنة في زمن السلم والصاخبة في زمن الحرب، فيحتشد ويصبح الأفراد (رعايا) للعصبية أو الزمرة الواحدة، إخواناً أو رفاقاً يجهدون لتلبية الواجب والحمية من أجل بلوغ مراتب (النحن المثالية) التي تمنح رعاياها الحماية في غياب أي حماية أخرى للدولة، ويمنحونها شعائر الولاء خلال مناسبات التظاهر الاجتماعي (مآتم، موالد، أفراح الخ).

وتتعاظم تلك النزعة لتتجلى في بطولة الإقدام على قتل جماعي لزمرٍ من الطائفة الأخرى، أو حتى لزمر من الطائفة ذاتها تُتَهم بالخيانة (معارك أمل وحزب الله في المحيط الشيعي ومعارك الجيش ضد القوات اللبنانية في المحيط المسيحي).

ثانياً: دينامية التواصل بين الجماعات بفعل عوامل سياسية محددة.

عندما نميز بين عوامل مهيمنة، وأخرى محددة، فإنما نهدف الى التمييز بين قوام الشكل المرئي في ظاهر الجماعة المتناسق في ظرف معين من جهة، ومنطق تشكلها الكامن في داخلها المتصارع طيلة زمن معين من جهة أخرى. وعندما يكون الشكل المتناسق نتاجاً للشكل الصاخب، يصبح تناظم عناصر المجتمع المحلي أو الجماعة المحلية ليس وليد حركة داخلية نظامية في جوهر مستقل، بل وليد علاقات هذه العناصر (الانتشار، الإنتاج، التعليم، الموقع السلطوي .. الخ) المتواجهة مع الإمكانات والعناصر الأخرى المتفاعلة معها داخل بنية المجتمع اللبناني الكبير (الكلي).

يلتفت الباحث لقضية موثقة ليدلل بها على ما قاله حول تحرك الأفراد داخل جماعاتهم ومواجهاتهم للآخرين (المخترَعين أو المُنصبين) وِفق فهم تشكل لدى هؤلاء الأفراد، وكيف أن الفهم نفسه سيتغير بتغير الأحوال. فيقارن بين عبارات وردت في إجابات لأسئلة وجهت لطلاب الصف النهائي من الثانوية العامة عام 1978 وإجابات طلاب من نفس المرحلة عام 1991، ومعروف كم حملت السنوات الثلاث عشرة من أحداث فكانت المقارنة كالآتي:

1ـ لبنان بلاد مقسمة تبحث عن هوية (1978) ـ لبنان بلاد مغلوب على أمرها (1991)
2ـ الخطر محصور (1978)، الخطر منتشر في جميع البلاد (1991).
3ـ خطوط التماس (1978)، مناطق الاشتباكات (1991)
4ـ تجمع طائفي (1978)، تجمع سياسي (1991)
5ـ مراهقة مختزلة (1978)، لا طفولة ولا مراهقة (1991)
6ـ البقاء في لبنان ينصح به من سافر الى الخارج (1978)، يرغب بالسفر كل من توفرت له الإمكانات (1991).
7ـ قلق بسبب انعدام الأمن وتساؤل حول القيم (1978)، قلق أكبر بسبب الاضطراب الاجتماعي وانعدام القانون والقيم في كل مكان (1991).
8ـ حقد، ارتياب، بحث عن المنفعة الشخصية (1978)، حقد وارتياب أكبر وبحث أكثر عن المنفعة الشخصية (1991).
9ـ ارتباط بالزعماء السياسيين (1978)، التخلي عن الزعماء السياسيين والدينيين (1991).
10ـ تقدير الالتزام السياسي للشباب وتهميش للشباب غير الملتزم (1978)، التراجع عن الالتزام السياسي (1991).
11ـ التماهي مع الجماعة الطائفية (1978)، لم يعد يجد نفسه في الانتماء الطائفي (1991).
12ـ إرادة التعميق بالدين للدفاع عن نفسه (1978)، النهوض الروحي العميق (1991).
13ـ انعدام التعصب (1978)، انعدام التعصب (1991).

وقد لاحظ الباحث أن مواقف الشباب (العينة من 400) في نهاية الحرب 1991، كانت مرتبة من حيث القوة: فنون إنقاذ الحياة، النهوض الوطني، الانفتاح على الآخرين، النهوض الروحي، النهوض الأخلاقي، الارتياب، البحث عن المنفعة الشخصية، التعصب.

ثالثاً: دينامية فارقة (Polemique) للتآلف الإنساني بفعل العوز الوجودي والاضطرار!

يشير الباحث الى ظاهرة طريفة ولافتة (بنظره) وهي أنه في أحد أحياء بيروت الفقيرة جداً، تتخالط فيها جماعات من اللبنانيين (شيعة) و من عشائر عربية (سنية) [عرب المسلخ]، ومن الأكراد ومن الفلسطينيين، ومن آخرين جاءوا من بلدان مجاورة، كانوا يعيشون بتآلف لافت، في حين تنفرز الجماعات الأكثر يسراً الى الانفراز المذهبي والإثني.

ويزيد الباحث في وصفه لهذا الحي الذي يضم 371 أسرة يعيش 20% منها في مساكن لا تزيد عن 20م2 وتعيش باقي الأسر في مساكن يفصل بينها طوب سماكته 10سم، وتقوم القابلات البدويات (العربيات السنيات) بخدمة الحوامل من الشيعة والأكراد، ووجد أن 56% من نساء هذا الحي المختلط يرفضن ذكر مذهبهن الديني أو عرقهن الإثني. ووجد أن 62% من الشيعة يختلطون بالجميع، و84% من الفلسطينيين يختلطون بالجميع و 35% من الأكراد يختلطون بالجميع (انخفاض النسبة يعود للصعوبة اللغوية)، و77% من العرب السنة يختلطون بالجميع، وهذا يدلل على عفوية هذا المجتمع وابتعاده عن اختراع الآخر وتصليب وضعه في المجتمعات الأخرى.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس