عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-02-2006, 12:04 PM   #13
محمد العاني
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,538
إفتراضي

الشمس شمسي و العراقُ عراقي
ما غيّر الدُخلاءُ من أخلاقي


ثوانٍ معدودةٌ فصلت بيني و بين الموت..
كنتُ واقفاً في حديقةَ المنزل في إحدى الصباحات المتفجرة للحرب..و هممتُ بالدخول إلى المنزل و تحركت فإذا بي أسمع صوتَ سقوط شظيّةٍ لا تزال ملتهبةً من بُقيا صاروخ مضاد للطائرات من عيار 57 ملم الذي صُنّع للحرب العالمية الثانية و العراقيون يُقاومون به الطائرات الشبح و الإف-18 هورنيت و الإف-14 تومكات. مشهورةُ بصوتها الرخيم عند الإطلاق، كُنّا دائماً ما نجد شظاياها في باحة المنزل أو في الحديقة أو حتى على سطح المنزل. ذلك أن أحد المدافع التي كانت تُطلقها كانت تقبع ليس ببعيدةٍ عن منزلنا. و في ليلةٍ نوّرها الأمريكان بالقصف المتواصل إستمر هذا المدفع بإطلاق الصواريخ لفترةٍ طويلةٍ لأن الطائرات كانت تحوم فوق المنطقة أعتقد لضرب أحد القصور الرئاسية القريبة من المطار. و بعد فترةٍ من الإطلاق المتواصل..سمعنا صوت صاروخ قريبٍ جداً تلاهُ صوت انفجارٍ قريبٍ هزّ المنزل..و لم نسمع بعدها صوت الصواريخ المضادة للطائرات، فأدركنا أن البطل رحمة الله عليه قد استُشهد و موقع المدفع قد دُمِّر.
في كل مناطق بغداد، كان حزب البعث قد حفر الخنادق و وزّع البدلات العسكرية و الأسلحة الخفيفة على أعضاء الحزب و على أي شخص كان يرغب بحمل السلاح لمحاربة الأمريكان. فللحصول على سلاح خلال الحرب لم يكُن عليك سوى التوجه إلى أقرب منظّمة حزبية أو مقر لحزب البعث للحصول على رشّاش كلاشينكوف (أي كَي 47) و علبة رصاص للسلاح. و كان أعضاء الحزب يقبعون في الخنادق 24 ساعةً في اليوم في أول أيام الحرب. و كان أهل المنطقة يزودوهم بالطعام الحار في وقته و الماء و كل ما يحتاجون.

"القوات الأمريكية تحاصر مدينة النجف و تتوجه إلى كربلاء" هذا ما كان يُذاع في الأخبار. و من طرائف الأخبار التي لن أنساها ما حييت، هو الخبر بخصوص وصول القوات الأمريكية إلى كربلاء.
جاء الخبر أول ما جاء ( و قد كان الخبر كاذباً في حينه) أن "القوات الأمريكية تحكم الطوق على كربلاء الواقعة 75 كم جنوب بغداد". و بعد ما يقارب ستة ساعات أذيع الخبر "القوات الأمريكية تحاصر كربلاء الواقعة 60 كم جنوب بغداد". و أخيراً أذيع الخبر بعد عدة ساعات "القوات الأمريكية تحاصر كربلاء الواقعة 35 كم جنوب بغداد". ما أجمل هذه النكتة، فالظاهر أن كربلاء بدأت تزحف باتجاه بغداد..و بسرعةٍ كبيرةٍ أيضاً..!!!
كانت الأخبار التي تذيعها الإذاعات و القنوات الغربية أبعد ما تكون عن الصحة. و بالرغم من كثرة الحديث عن محمد سعيد الصحاف و عن كذبه و صدقه، فإن الأخبار التي كان يحملها كانت أقرب ما يُذاع إلى الحقيقة. كانت أخباره تحيد عن الحقيقة أحياناً لأنه لم يُبلغ بصورةٍ صحيحةٍ عما يحدث ولكنه كان الأقرب إلى الحقيقة من كل أبواق الإعلام الغربي.

في خضم تقدم القوات الأمريكية بإتجاه بغداد من الشمال و الجنوب..كانت هنالك بطلةٌ على موعدٍ مع الشهادة إن شاء الله. تلك بطلةٌ فجّرت نفسها في نقطة تفتيش أقامها الأمريكان بين بغداد و كربلاء قبل إحتلال بغداد. كانت -رحمة الله عليها- حاملاً. و آثرت الجهاد في سبيل الله على الحياة الدنيا.
كان العراق يهدد و يتوعد بحربٍ غير تقليدية. تلكم الكلمة التي تشدّق بها بوش محاولاً إفهام العالم أن العراق يملك أسلحة دمار شامل. إستخدم الجيش العراقي و قوات الحرس الجمهوري و الحرس الخاص كل الأساليب الممكنة لمواجهة الأمريكان..و سنأتي إن شاء الله بحلقةٍ عن معركة المطار و ما حدث فيها. إستخدم العراقيون حتى سيّارات الإسعاف لنقل القوات و مواجهة الأمريكان. لذلك أصبح الأمريكان يخافون من ظلالهم.

كانت بغداد تتحول شيئاً فشيئاً إلى مدينة أشباح..الكثير الكثير من سكان بغداد غادرها. بعضهم غادر قبل الحرب إلى سوريا أو الأردن. و البعض الآخر غادر قبل الحرب و أثنائها إلى بعض محافظات العراق الأقل عرضةً للخطر مثل محافظة الأنبار في وقتها و الموصل أو حتى الحلّة أو النجف و كربلاء و الكوفة. من كان له أهلٌ في محافظةٍ أخرى ذهب إليهم. و أكثر سكان المنطقة التي نسكنها ذهب إلى الأنبار إلى المدن البعيدة عن الحرب في وقتها مثل الفلوجة و البغدادي و آلوس و عانه و حديثة و عامرية الفلوجة.
رفض أبي أن يُغادر البيت إلى الأنبار. و قال:"إن شئتم فاذهبوا جميعاً و اتركوني". و لكننا لم نكن نقبل بكل حال من الأحوال أن نفترق. فإن كان الله سبحانه و تعالى قد كتب لنا الموت فسوف يُدركنا أينما نكون.
كنت أفقد أعصابي شيئاً فشيئاً. و كانت تمر عليّ أوقاتٌ لا أحتمل فيها الإستمرار بالعيش بهذه الطريقة. قتل و دماءٌ و إنفجارات. و لكني كنت أعود إلى رَشَدي و أقول "قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

كان الحزن يُقطّعني كلما رأيت بنايةً او مكاناً دُمّر بالقصف. لطالما أحسست أن بغداد جزءٌ من روحي. فإينما كان يحل القصف كانت الصواريخ تسقط على روحي..و ليس لي أن أمنع نفسي من البكاء على نفسي...
__________________
متى الحقائب تهوي من أيادينا
وتستدلّ على نور ليالينا؟

متى الوجوه تلاقي مَن يعانقها
ممن تبقّى سليماً من أهالينا؟

متى المصابيح تضحك في شوارعنا
ونحضر العيد عيداً في أراضينا؟

متى يغادر داء الرعب صبيتنا
ومن التناحر ربّ الكون يشفينا؟

متى الوصول فقد ضلت مراكبنا
وقد صدئنا وما بانت مراسينا؟
محمد العاني غير متصل   الرد مع إقتباس