قصَّة فيها عبرة وموعظة
ذكرَ اليافعيُّ عن أحدِ الصالِحينَ مِنْ ذُريةِ الحُسين رضي الله عنه وهو صبِيٌّ دونَ البلوغ؛ عن أحدِ الصَّالحين رضي الله عنه قال: بينما أنا ذاتَ يومٍ في بعضِ شوارِعِ البصرة وإذا بصُبيانٍ يلعبونَ بالجوزِ واللَّوزِ وإذا بصبِيٍّ ينظرُ إليهم ويبكي، قال الرَّاوي: فقلتُ هذا الصبيُّ يتحسَّرُ على ما في أيدي الصُّبيان ولا شىءَ معه فيلعبُ به، فقلتُ له: أي بُنَيَّ ما يُبكيكَ، أشتري لكَ من الجوزِ واللوزِ ما تلعبُ به مع الصبيان؟ فقال الصَّبيُّ وقد رفعَ بصرَهُ إلى السَّماءِ وهو يبكي: يا عمّ ما للّعبِ خُلقنا، فقلتُ: أي بُنيَّ فلماذا إذًا خُلقنا؟ قال: خُلقنا للعِلْمِ والعبادةِ، قلتُ: مِنْ أينَ لكَ هذا باركَ اللهُ فيك؟ قال: مِنْ قولِهِ عزَّ وجل: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾، قلتُ له: أي بُنَيَّ إني أراكَ حكيمًا فعِظنِي وأوجِز، فأنشأَ يقول:
أرى الدُّنيـــــا تُجهَّـــزُ بانطــــلاقِ
مُشمّـــــرةً على قـــدَمٍ و سـاقِ
فــــلا الدُّنيــــا بباقيــــةٍ لِحـــــيٍّ
و لا حـــيٌّ على الدُّنيــــا ببـاقي
كأنَّ الْموتَ و الْحَدثــــــانِ فيهـــا
إلَى نفسِ الفتَى فرسا سبـاقِ
فقامَ رضي الله عنه ثم رمَقَ السَّماءَ بعينِهِ وأشارَ إليها بكفِّهِ ودموعُهُ تنحَدِرُ على خدَّيهِ وهو يقول: يا مَنْ إليه المُبتَهل يا مَنْ عليه المُتَّكَل، قال: فلمّا أتمَّ كلامَهُ خرَّ مَغشِيًّا عليه فرفعتُ رأسَهُ إلى حِجري ونفضتُ الترابَ عن وجهِهِ بكُمّي فلمَّا أفاقَ قلتُ له: أي بُنَيَّ ما نزَلَ بك وأنتَ صبِيٌّ صغير لَم يُكتَب عليكَ ذنبٌ؟ قال: إليكَ عنّي إني رأيتُ والدتِي توقِدُ النارَ بالحطَبِ الكبارِ فلا يتَّقِدُ لَها إلا بالصّغارِ وأنا أخشى أن أكونَ مِمَّن أبلُغُ على الحرام وموتِي على الحرام.
فوقعَ الرَّجُلُ على الأرضِ مَغشيًّا عليه وانصَرفَ الصبِيّ، فلما أفقتُ نظرتُ إلى الصُّبيان فلَم أرَهُ معهم فقلتُ لهم: مَنْ يكونُ ذلكَ الغُلام؟ قالوا: ما عرَفتَهُ؟! قلتُ: لا، قالوا: ذلكَ مِنْ أولادِ الحُسينِ بنِ عليّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنهم، فقلتُ: قد عَجِبتُ مِنْ أينَ تكونُ هذهِ الثَّمَرَةُ إلا مِنْ تلكَ الشَّجرة.