عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-03-2024, 07:36 AM   #2
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 5,991
إفتراضي

أيّها الشيطان ... إبليس ... أين ما وعدّتنا .. ؟ أين ما زيّنت لنا .. ؟ أين ما أقسمت لنا من صدق القول وصواب الحديث؛ إنّهم يصطرخون فيها ... ليس صراخاً .. إنّه اصطراخ .. وزيادة المبني تدلّ على زيادة في المعنى. فإمّا أنّهم جرجروه حتّى أقاموه فوق منبر من نار .. وإمّا أنّه تصاغر وأطلق كلماته هذه محاولاً قدر استطاعته أن يُخفي خزيه وعاره، ولم يبقَ له من عذرٍ فقد قُضي الأمر، وآب الناس إلى منازلهم: هو وحزبه إلى النار وحزب الله إلى الجنّة."
وشرح قول الشيطان والذى لم يسمه الله إبليس فقال :
"{إنّ الله وعدكم الحقّ ووعدّتكم فأخلفتُكم} ...
ومثل هذه الآية في المعنى قوله سبحانه: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن شيئاً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه}.
فالله قد وعد، ووعده حقّ، وهو القادر سبحانه وتعالى أن ينفّذ وعده، لا يعجزه شيء إذا أراده، ثمّ تفكّر بهذه الصيغ الرحيمة التي ينادي الله تعالى بها عباده في هذه الدنيا، إنّها كلمات الرحمة."
وحدثنا عن رحمة الله عباده بفتح باب التوبة في الدنيا فقال :
أ"ُنظر وتفكّر في قوله سبحانه {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله * إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم} فتفكّر فيها المرّة تلو المرّة، ثمّ تفكّر أنّ الذي يناديكم بهذه الكلمات هو خالقك وربّك، وهو الغنيّ عن العالمين، لا يزيدون ملكه شيئاً إذا عبدوه، ولا ينقصون ملكه شيئاً لو كفروه، سبحانه ما أرحمه، وما أرأفه، فله الحمد على جميل صفاته .. جلَّ في علاه.
إنّ من وعد الحقّ أن ينصر الله عباده فنصرهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يملأ قلوبهم بالرضا والاطمئنان فأرضاهم، وكشف عنهم غمّهم، وإنّ من وعده أن يخفّف عنهم سكرات الموت فكان لهم ذلك، وأن يجعل عليهم قبورهم جنّة من الجنان فيها روح وريحان فذاقوا من ذلك ألواناً، وإنّ من وعد الحقّ أن يؤمّنَهم يوم الفزع الأكبر فأمَّنهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يجعل لهم نوراً في قبورهم ويوم بعثِهم وفوق الصراط فكان لهم النور، وإنّ من وعد الحقّ أن يدخلهم الجنان فدخلوها، وإنّ من وعد الحقّ وهو أعلى الوعود وأشرفها أن يروا ربّهم فتجلّى لهم من فوقهم ورأوه كما يرون البدر في الليلة الصافية .. {وقالوا الحمد لله الذي صدَقَنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّء من الجنّة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}."
وتحدث عن اقرار الشيطان بأنه أخلف الناس وعده فقال :
"فماذا فعل الشيطان بوعوده؟ {فأخلفتكم} هكذا ظهر سراب وعوده، تكشّف كذبها، وبانت على حقيقتها، لقد تلاشت كلّها تحت كلمة الشيطان {فأخلفتكم} .. لقد بحثوا عنه في كلّ موطن أقسم لهم أن يكون لهم فيه، ونادوا عليه بكل أصواتهم حتّى كلّت وبحّت، لكنه لم يكن هناك، لقد تخلّف لقد أقسم لأبينا آدم {وقاسمهما إنّي لكما من الناصحين} وكذب في قسمه.
لقد أوعدهم الفقر إن أنفقوا فكان ما نصحهم به هو الفقر بعينه.
لقد وعد أولياءه في بدر، وقال: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم}، فما هي إلا لحظات حتّى صدق الله وعده للمؤمنين وأنزل ملائكته تؤيّدهم وتثبّتهم وتقاتل معهم فما كان من الشيطان إلا أن نكص على عقبيه وقال: {إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون، إنّي أخاف الله والله شديد العقاب}.
{فأخلفتكم} .. كلمة لم تبقِ لهم في نفوسهم أملاً، وقطّعت كلّ أمانيهم، ولم يبقِ لهم من رجاء، وإذا كان للشيطان أن يصدق قليلاً فإنّ صدقه هنا لم يكن سوى تصوير لحقيقة الأمر التي لا دافع لها. ولله الأمر من قبل ومن بعد ثمّ بكلمات يسيرة خاطفة، ككلّ خطبة، قذف البراءة والتبرّي في وجوههم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ..
والسلطان ههنا اختلف العلماء في تفسيره؛ فأكثرهم على أنّه الحجّة والدليل، أي لم يكن لي من دليل ولا حجّة على ما دعوتكم له من الشرك والكفر والمعصية، بل بمجرّد أن رفعت لكم لواء الشهوات حتّى أقبلتم إليها دون تفكّر بالعواقب، ودون نظر صحيح، وقال بعض أهل العلم إنّما السلطان هو القوّة والقهر، أي لم أقهركم على الكفر والشرك إنّما أقبلتم إلى ذلك بمحض إرادتكم، ولا يبعد أنّ المراد بالسلطان هو هذا وهذا، بل كلمة السلطان أشمل من ذلك"
وتحدث عن أن الشيطان أراد تبرئة نفسه من كونه السبب في دخولهم النار فقال :
"فإنّ الشيطان يريد أن يبرّئ نفسه، وأن يحمّل الأتباع نتيجة ما أتوا وعملوا، ولكنّه استدرك وبيّن ما كان منه من عمل: {إلا أن دعوتكم}، وهكذا أخفى كلّ ما يقوم به من تزيين للباطل ونصرة للشر والنفخ والهمز في قلوب الناس بكلمة واحدة: {دعوتكم}.
وأقول: أخفى لأنّ في كلمته هذه تزييف للحقيقة، فإنّها كلمة سريعة فلو كان أمام قضاء غير ما هو فيه لما استحقّ عليها عقاباً، لكنّها يوم القيامة تحمل حقيقة المعنى وذلك لتحقّق الجزاء، وهي كلمة تَبرّي؛ نعم، لكنها كلمة تبكيت وتحقير لأتباعه وعباده، وهي بلا شكّ ستملأ قلوبهم حسرة وندامة.
الشيطان دعاهم، وزيّن لهم، ووسوس لهم، ووعدهم، وأوحى لهم، ورماهم بسهامه، وقذف في طريق الحقّ ألف معوّق ومعوّق، وصاحب قلوبهم في السر والعلن، وكان ممّا قال لربّه يوم لعنه: {أرأيتك هذا الذي كرَّمتَ عليّ لئن أخّرتنِ إلى يوم القيامة لاحتنكنّ ذرّيته إلا قليلاً}، فقال الله تعالى له: {اذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً *واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً * إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلاً}.
فقارن بين هذه الأفعال: دفع الناس بالصوت والنداء إلى الكفر والشرك والمعصية، والجلب عليهم بالخيل والرجال والمشاركة في الأموال والأولاد، والوعود الكاذبة، ثمّ انظر إلى قوله {لأحتنكنّ ذرّيته} أي لأشدّنهم إلى الشرّ من الحنك وأسوقنّهم إليه بكلّ قوّة، وبين قوله: {دعوتكم} ترى كيف ما زال الشيطان كاذباً ومراوغاً في كلّ موطن، نعم: صدق، دعاهم فقط، كلّ ما فعله اختزله في كلمة واحدة، أمّا تحقيقها على أرض الواقع فهي تحتاج إلى شروح وشروح."
وبين الرجل أن الشيطان بين أن عمله لم يزد عن أنه دعوة للباطل فقال :
"{دعوتكم فاستجبتم} ...وهكذا يتمّ التقريع والتبكيت، لقد استجبتم لنداء الشيطان بمجرّد أن دعاكم، لكن هل سكتوا؟ اسمع ماذا قال الله عن جواب الأتباع للأسياد بعد قول الأسياد: {قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين}، فردّ الأتباع: {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً}.
رضا البطاوى غير متصل   الرد مع إقتباس