عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 17-01-2012, 01:08 PM   #16
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(46)

أخذ علوان يفكر بجدولة أعماله المقبلة، وعلاقاته الاجتماعية الجديدة، وبرامج نومه وزياراته، والتوافق بين أن يعيش في كنف أسرته المكونة من أبيه وأمه اللذان يفوقان عمره بعشرات السنين، وكذلك زوجته وطفليه، وبين تحقيق آمالهم في جعل حياتهم مريحة بعض الشيء...

تذكر أن صديقاً قديماً كان من أترابه، وطلاب صفوفه الدراسية اسمه (خليل)، وهو شقيق إبراهيم خريج يوغسلافيا والذي أراد أن يتشارك مع علوان في مزرعة أبقار. كان أرعناً كثير الحركة والمغامرات، صاحب نكتة يخترعها بإضافاتٍ كاذبة من طرفه، بلغه أنه وهو خارج البلاد أنه تعرض لحادث سير، أنقذته بعد أن انقلبت سيارته دورية من الشرطة العسكرية، ولكن من أنقذه لم يراع طريقة حمله على كتفه، فأثر ذلك على النخاع الشوكي، فبدا مشلولاً لا يستطيع النهوض... وصف له أحدهم الذهاب الى تشيكوسلوفاكيا للعلاج الطبيعي، غاب أكثر من سنة، وقد عاد قبل يومين، فقرر علوان زيارته..

انحنى علوان ليعانق صديقه الممدد على سرير أُعِّد له، وحوله عدة مقاعد لمن يحضر لتسليته والسلام عليه، فبعد معانقته عضَّه خليل في ذراعه عضة مؤلمة، لكنه تحملها وضحك مع الضاحكين...

عرف معظم الحاضرين الذين التقى بهم ذلك المساء، والأمسيات التي تلت ذلك اليوم. لم يكونوا أبناء مدرسة واحدة ولا جامعة واحدة ولا حزب واحد ولا تربطهم قرابة، كانوا قد تجمعوا حول خليل كتجمع أغراضٍ يخطفها خطافٌ أُنزِل في بئر لانتشال دلو ساقط، وقد يخرج الخطاف دلواً غير الدلو المنشود، ومن ثم يخرج فردة حذاء ومن ثم دلوا آخر، ولكن من أخرج تلك الأشياء لم يعيدها الى البئر، بل احتفظ بها جميعا...

كان منهم ثلاثة على الأقل ينتسبون لرابطة الأدباء، أحدهم يكتب القصة القصيرة، والثاني يكتب مقالات أسبوعية في جريدة يومية، والثالث مهندساً لكنهم كانوا يعودون له في تصحيح الأخطاء اللغوية في أعمالهم الأدبية...

كانوا يحضرون زوجاتهم وأطفالهم معهم، فتدخل النساء والأطفال الى غرفة واسعة، يتحدثن أحاديث متنوعة، وكانت معظم تلك النسوة من خريجات الجامعات، ويُحَضرْن بعض المأكولات الخفيفة والحلويات والعصائر وغيرها...


لم يعلم علوان سر ظهور هؤلاء بنشوة شبه دائمة. مُعظم أحاديثهم كانت تدور حول التندر بالعادات والتقاليد المحلية والألفاظ القديمة التي يتلفظ بها المجتمع الريفي، وكذلك يتناولون شخصيات المجتمع العام، فهذا لص وهذا متعاون مع المخابرات، وذاك آفاق محظوظ...

كان الرجال يحاذون نسائهم محاذاة، دون انصهار وجداني عميق، وكانت علاقاتهم بهن كعلاقة أسلاك الكهرباء الموجبة بالسالبة تتحاذى مع بعض دون تماس، وكان أطفالهم يشبهون السلك الثالث (المتعادل). كانت الأطراف الثلاثة لكل أسرة تعيش في مهادنة مديدة. وقد يكون سر نشوتهم في ذلك.. فالرجال ليس بهم خشونة سكان الريف الأصليين فلا يضايقون نسائهم، والنساء تشبع رضا الرجال بما يتلاءم مع طموحاتهم غير الواضحة، فهي تجتهد بابتكار بعض الأطعمة وتبدو بمظاهر متقدمة أمام أصدقاء الرجال، والأطفال لا يتعرضون للزجر والحرمان، ويُقدمون أحياناً (نُمراً) ترضي ذويهم... كانت برجوازية تلك الأسر الناشئة، (سرخسية) الطابع، لا جذور عميقة لها..

كانت المجموعة تشبه (ضُمَّة) من نبات (الحمص) الأخضر، تبدو عن بُعدٍ يانعة عفية، لكن ذلك لا يمنع من اكتشاف (أجراس) فارغة لا تحتوي شيئاً.

كان على كل واحد منهم أن يحضر بيده شيئاً، حتى يضمن أنه لا يوضع داخل دائرة البخلاء أو الزوار ثقيلي الظل، وقد كان بعضهم قد اغترب وأتى ببعض المال، وبعضهم يزاول مهنة الهندسة في مكتبٍ خاص، كانت أعمارهم تتراوح بين الخمس والثلاثين والسبعة والأربعين عاماً، وأعدادهم تصل الى خمسة عشر شخصاً، يتواجد منهم في كل أمسية حوالي خمسة أو ستة أشخاص..

(47)

فكر علوان بزيارة خليل عصراً، حتى يتسنى له الحديث معه بشكل رئيسي، فقد كان يعلم كيف أن خليل ينتظر قدوم المساء حتى يتجمع حوله المتسامرون، لكنه كان يلمح في كل مرة إحساساً في عينيه، بأن تلك الشفقة التي تأتي من هؤلاء ليس وفاءً له، أو لخدمته، بل وجدوا في تلك المناسبة محطة استراحة تجعلهم في حالة أشبه ما تكون ب(المساج) الاجتماعي لإزالة ما عانوا في نهارهم، هذا إذا كانوا قد عانوا..

فرح خليل بتلك الزيارة، وأعاد قصة الحادث وكيف أنه سقط من أعلى جسر بالسيارة بعد منتصف الليل، وبقيت أضواء السيارة المقلوبة شغالة، حتى لمحته دورية شرطة عسكرية، وتطوع أحدهم أن يحمله على كتفه...

سأله علوان عن مدى تحسنه بعد العلاج الطبيعي في تشيكوسلوفاكيا، حاول النهوض، ووقف على ساقيه بعد معاناة، وهو يرتجف، فأشار إليه علوان راجياً أن يجلس، وأخذ يفكر ويستمع في آن واحد لخليل، كانت لهجة خليل مروعة، كيف كان كثير الحركة، يسهر في بيروت أو دمشق ويعود، وكيف سيصبح بعد هذه الحال؟ وكيف أنه رفض الزواج من أجمل فتيات الحي عندما تم الاتفاق مع والدها ووالده دون أن يعلم؟ ومن التي ستقبل به بعد هذا المصير؟

دخل إبراهيم، وحيا علوان، وسأله ماذا عنك الآن؟ هل لا زلت تفكر في مزرعة الأبقار، وكيف ستتصرف وجواز سفرك المحجوز فلا سفر ولا وظيفة حكومية؟

ـ لدي مجموعة من الأفكار، ولكني أدقق في دراسة كل منها، كما أن هناك مشكلة التمويل، فهي عائق كبير، ولا أريد أن أثقل على والدي، وهناك من نصحني بالتوجه الى بنك التسليف الزراعي، وسأقوم بزيارة الفرع في البلدة..

ـ مدير الفرع (أبو جهاد) أحد رفاقنا القدماء، وسيتعاون معك، سأرافقك لزيارته غداً إن شئت...

ـ حسناً، وإن لم تفلح تلك الزيارة، سأقوم بفتح مكتب للاستشارات الزراعية وبيع الأسمدة والبذور وغيرها...

حدثه إبراهيم عن لقاءاتهم اليومية، ووصف هؤلاء الزوار بأنهم (مِلح المجتمع) فهم على درجة كبيرة من الثقافة والوطنية والعفة والذوق الرفيع، وطلب منه عدم الانقطاع عن مثل تلك السهرات... وحدثه عن عمله، حيث يدير مجمع النقابات المهنية في المحافظة، الخاصة بالمهندسين والمحامين والمهندسين الزراعيين، وهناك نية لانضمام باقي النقابات للمجمع، ودعاه للانتساب السريع للنقابة وزيارته..

(48)

(أهلاً عمي علوان)، كيف أنت؟ أنا آسف، كان لازم أزورك وأهنئك بالسلامة، واليوم كُنَّا بسيرتك، أنا وأبو المعتصم، لا أدري هل تعرفه؟

كان أبو جهاد في الثانية والخمسين من عمره، ويعلم علوان عمره بالدقة، لأنه سمعهم يقولون أنه قد ولد يوم ولد سليمان بك قريبه، ويعلم أنهما قضيا بداية حياتهما في حزب الشعب وسكنا في بيت واحد..

كان شعره غزيراً ولكنه ذا لونٍ أزرق تقريباً لاختلاط البياض بالسواد، لم يره أخرج مقدحة أو علبة ثقاب لإشعال سيجارته، بل يشعل كل واحدة من أختها، وأحياناً يلاحظ أنه أشعل اثنتين في آن واحد، رغم ندرة تلك الحالة عند من يدخنون بمثل ذلك الأسلوب...

بعد أن أخبره إبراهيم عن غرض الزيارة لهما لفرع بنك التسليف الزراعي، عَدَّل أبو جهاد جلسته وأشعل سيجارة أخرى وسيجارته لا زالت أطول من نصفها، وناول علوان ورقة وقلم، وأملاه الأوراق المطلوبة، وابتسم ابتسامة عن أسنان بيضاء قوية لا تتناسب مع لون شعره أو بشرته النحاسية.. وقال: نحن في خدمة الطيبين..
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 17-01-2012 الساعة 01:20 PM.
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس