الموضوع: شقاء السعادة
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-03-2010, 09:50 AM   #9
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي


(39)

كعادته، تطوع (إعْوَيِد) لمرافقة (عكرمة) في رحلته لجمع الحشائش، ورغم أنه يكبره بسنتين ولا يجمعه به صلة قربى، فكان من أكثر أصدقائه الملازمين له في لهوه وجده.

امتطى الفتيان حماراً أسود اللون ضئيل الحجم، يتناسب حجمه وطاعته مع عمريهما، وكان تحتهما (بردعة) يعلوها كيسٌ ضخم من الخيش أخذاه ليملأنه بالعشب بعد أن سمح (السندياني) للناس بذلك.

لم تستطع الشمس التغلب على الغيوم المتكاثرة، فكانت تبدو بينها كشيخ عنين يراود امرأته دون جدوى. ومع ذلك كان الطقس دافئاً في مظهره الخارجي، بارداً في حقيقته، دون أن يحس الفتيان ببرودته.

لم تكن مشية الحمار توحي بأنهما سينجزان مهمتهما بسهولة، فكان يضع رقبته على امتداد ظهره، وعيناه بين المغمضتين والمفتوحتين، والوقت الذي استغرقه للوصول الى الحقل لجمع الحشائش، زاد عن ساعتين.

استغل (إعويد) ذلك الوقت في سرد قصصٍ خيالية، منها ما نسبها لنفسه ومنها ما نسبها لوالده، وكانت معظم قصصه تأتي على إثر رؤية مشهدٍ أمامهما في الطريق، فكان يركب القصة، وهو مطمئن أن (عكرمة) لن يعترض عليها، فقد كان يجلس خلفه على ظهر الحمار، متشبثاً في أطراف البردعة أحياناً، أو ممسكاً بأحد يديه برفق بخاصرة (إعويد).

عندما أقبلا على وادٍ ليس بالسحيق كثيراً، كانت الجهة المقابلة لهما يزيد ارتفاعها عن بناية من أربعة طوابق. اخترع (إعويد) قصة: أنه ذات يوم، عندما وصل لتلك المنطقة برفقة آخرين لم يذكر أسمائهم، كان هناك رجلٌ أشعث الشعر طويل القامة، رشيق الحركة، شبه عارٍ، يصعد ذلك السفح للوادي ووجهه باتجاه الوادي بسرعة تفوق سرعة السحلية، ثم يعود راكضاً للأسفل ويكرر صعوده ونزوله، لم يهتم عكرمة بتلك القصة ولم يسأله أي سؤالٍ حولها يبدي اندهاشه أو تكذيبه.

كانت عينا عكرمة تراقب حشرة (الجعران) السوداء التي بحجم حبة الزيتون، تدفع كرة من روث المواشي يفوق حجمها حجم الجعران بعشرة أضعاف، وكان الجعران يسير باتجاه الخلف، ورأسه باتجاه آخر، فابتسم عكرمة وقال في نفسه لعل الجعران هذا هو من جنود الرجل الأشعث الذي تحدث عنه (إعويد).

(40)

أكمل الفتيان جمع الحشائش ووضعاها داخل الكيس الضخم، ولم يخطر ببالهما أنهما لن يستطيعا رفع ذلك الكيس فوق ظهر الحمار.

وبعد أن أكملا تشبيك فوهته بالخيوط الثخينة، أبرقت السماء وتلا برقها صوت رعد مخيف وكأنه انفجار مدوي. سحبا حمارهما الى (قحفٍ) بجانب التل، ليحتميا من الأمطار التي انهمرت بغزارة مبالغ فيها، عل أن تلك السحابة هي من سحابات الربيع المتأخر التي سيتوقف مطرها قريباً.

لم يسأل عكرمة صاحبه عن سبب حمل علبة ثقاب في جيبه، خصوصاً أنه استعملها في إشعال كومة من الأشواك والحشائش الجافة التي تركها أناس كانوا يشعلون النار لسبب ما.

كان الدخان المتصاعد من الأشواك الرطبة، قد تحالف مع ظلمة الجو الخارجي الممتلئ بالغيوم السوداء، ليشكل خلفية للهب المتصاعد بشُعَبٍ تتراقص وكأنها جنيات، وهذا ما استفز (إعويد) لابتكار قصص جديدة تتناسب مع المشهد.

فقال: ذات يوم ونحن نلعب (الاستغماية) في الحارات القديمة، وجدنا رجلاً طويلاً يضع على كتفيه عباءة سوداء، ويعتمر (كوفية) بيضاء فوقها (عقال) أسود، سألناه عما إذا رأى فتية مروا من هنا، وما أن انتهينا من تكملة السؤال لم يكن هناك رجل.

نظر عكرمة الى وجه صاحبه الذي لا يتوقف عن الكلام، ثم تناول عوداً من الحطب الرفيع، وأخذ يقلب به النار، ثم لمح أن السماء انقشعت وتوقف المطر.

(41)

حاول الفتيان حمل الكيس ليرفعانه على ظهر الحمار، لكن دون جدوى. ولم يقتربا من فكرة أن يتخلصا من قسمٍ من الحشائش التي في داخله، فابتكر (إعويد) طريقة لحمل الكيس على ظهر الحمار.

عكرمة، سأضع رجلي بجانب ساق الحمار الخلفي، وقم أنت بدفعه بكل قوتك مرة واحدة، دون أن ينتبه الحمار.

وافق عكرمة على ذلك، بعد أن أجبرا الحمار على الاقتراب من الكيس الممتلئ، فدفع الحمار فإذا به يسقط على الأرض. قرصا الكيس بواسطة عصا القيادة التي كانت بيد إعويد، فإذا بالكيس الضخم يستقر فوق ظهر الحمار. لكز الحمار لكي ينهض لكنه لم يستطع النهوض، عاوناه بوضع كتف كل واحدٍ منهما تحت طرفي الكيس، مع نهر الحمار وتشجيعه على النهوض، فنهض.

سار الحمار، ببطءٍ شديد، والبخار يخرج من فتحتي أنفه، ولهاثه بات مسموعاً، في حين باراه الفتيان كلٌ من أحد الجانبين، وهما يحسان بإنجازٍ عظيم.

كف (إعويد) عن سرد القصص، وركز اهتمامه في منع الكيس من السقوط، خصوصاً عندما اقتربا من وادي الرجل الأشعث.

لم يكن يخطر ببالهما أن الأمطار التي انهمرت ستجعل السيول تندفع الى بطن الوادي لتجعل مهمتهما أصعب في اجتيازه، خصوصاً وهذا الحمل الثقيل الذي فوق ظهر الحمار. غاصت أرجلهما في ماء الوادي ولم يكن يباليا في أن الماء علا سيقانهما لفوق ركبهما، المهم أن يبقى الحمل فوق ظهر الحمار.

(42)

تجمعت النسوة من الجيران وأهل الدار، لتنبش محتويات الكيس، وتتناول تلك النباتات التي لكل واحد منها اسم تعرفه النسوة، فهذه (حويرة) وهذا (مرار) وهذه (دريهمة) وهذه (كريشة) وكل نبات يجد طريقه الى أفواه النسوة.

التفت عكرمة الى النسوة ولم يقل شيئاً، بل مضى الى داخل الغرفة لتبديل ملابسه المبللة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس