عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-08-2009, 07:42 AM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي



الحكومة المختلطة


(( كانت العائلة والقرية تسبقان الدولة زمنياً، لكنها سابقة عليهما من حيث الطبيعة، لأن إمكانهما الأخلاقي يكتمل فيها ... وأن الحياة الأخلاقية المكتفية ذاتياً للمدينة هي الغاية المتضمنة في أشكال التنظيم كلها غير المكتملة ... وأن الإنسان مهيء لأن يكون جزءا من الكل السياسي، ولذا يكون ثمة دافع متأصلٌ لدى الجميع للارتباط بهذا النظام ... والإنسان عندما يكون كاملاً، هو أفضل الحيوانات، ولكنه حين ينفصل عن القانون والعدالة يكون أسوأها)) [ أرسطو]

بعد أن استعرض الكاتب ما أسس له أفلاطون في فقه السياسة الغربية، انتقل ليستعرض ما قدمه تلميذه (أرسطو طالس المولود في 384 ق م)، والذي أمضى عشرين عاما في أكاديمية أفلاطون.

والفقرة التي بدأنا بها هذه الحلقة، هي شذرات مجمعة من أقوال (أرسطو)، دمجناها مع بعض لتشكل النواة التي سنمر بها على رؤية أرسطو المغايرة بعض الشيء لأستاذه (أفلاطون).

(1)

يتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون، على أن تقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني. وما دامت الأسرة هي الوحدة الإنتاجية للعالم القديم، فهي أساس الدولة لدى أرسطو. وفي الحقيقة، كانت بضع عائلات تؤلف قرية.

يَعتبر أرسطو أن العائلة أو القرية توجد من أجل ((مجرد الحياة))، لكن المدينة توجد من أجل ((الحياة الصالحة)). وأن الأسرة والقرية هما ميدانان من ميادين الفعل الأخلاقي، غير أن مداهما مقيد، لأنهما تشكلا بحكم الضرورة والكفاح الشخصي واللامساواة.

(2)

لم يكن أفلاطون ليتفق أبداً مع رأي أرسطو القائل: أن الأسرة تتشكل من ثلاث مجموعات من العلاقات الأخلاقية المشروعة: علاقة السيد بالعبد، والزوج والزوجة، والآباء والأطفال. وكان فن التدبير المنزلي (Oikonomia) شبكة متناقضة من الضرورة الشخصية والاعتماد المتبادل، شبكة تخدم غرضاً خلقياً وتساهم في المقدار الأكمل للتطور البشري في المدينة. وقد عبر وصف أرسطو لهذا الفن، بوصفه فن إدارة العبيد وممارسة سلطة الزوج والسلطة الأبوية، عن النظرة الكلاسيكية للعائلة باعتبارها ميدناً للذكور الأحرار.

لم يشغل أرسطو نفسه بالرق باعتباره قضية إنسانية. فيقول: كان العبيد والسادة مترابطين معاً في شبكة من الاعتماد المتبادل تبلغ عمقاً أبعد من العجز المنزلي أو كسل الثري. فالعبيد ساهموا في تطوير السادة بتخليصهم من العمل المنزلي، والسادة ساهموا في تطوير العبيد بتوفير الإرشاد الأخلاقي والروية العقلانيةلهم. نظر أرسطو الى الرق بوصفه علاقة بين العناصر الحاكمة طبيعيا والعناصر المحكومة طبيعيا، وفي ذلك منفعة للجانبين وحفاظ عليهما.

كما يتصور أرسطو أيضاً سلطة الزوج والأب بوصفها علاقة الضرورة واللامساواة التي تربط البشر في علاقات منفعة تبادلية. إن التفوق الخلقي للزوج على الزوجة والآباء على الأطفال يقوم بتطوير الجميع على نحو أساسي. حتى لو كان الغرض الأخلاقي محدودا جداً.

يعرج أرسطو الى الجانب الاقتصادي، فعلى الرغم من أن الأسرة هي وحدة إنتاجية في المجتمع، فإن التبادل بين أفرادها سيكون محدودا جدا، وفي القرية سيكون التبادل أكثر سعة من الأسرة لكنه لن يؤدي الى فائض إنتاجي، طالما اعتمد مبدأ المقايضة البسيطة.

(3)

كانت الأسواق جزءا من الحياة الإنسانية لأمدٍ طويل، غير أنها لم تهيمن على الشؤون الاجتماعية إلا مؤخراً. وقد شكلت مجموعة معقدة من التطلعات والمؤسسات تنظم الحياة الاجتماعية لآلاف السنين، وكانت هذه المؤسسات في الأصل مؤسسات غير اقتصادية بطبيعتها.


كان البشر يشبعون حاجاتهم الأساسية من خلال مؤسسات الدين والقرابة التي لا يمكن أن تُفهم على نحو أولي، أو حتى على نحو واسع، بوصفها مؤسسات (اقتصادية) من حيث طبيعتها.


كانت الشؤون الاقتصادية، بطبيعة الحال، أساسية للمجتمعات المنظمة على الكفاف، غير أنها لم تقتضِ استقلالها ووضوحها الظاهرين، حتى جاءت الرأسمالية لتطلق باعثاً على نزعة حديثة متميزة الى متابعة الكسب الاقتصادي لذاته.

نتيجة للمقايضة بين مراكز بعيدة، أوجد الناس فكرة النقود، مما جعل من فكرة إشباع الحاجات هدفاً للتبادل، وهذا ما جعل أرسطو في شك من أنه ليس هناك حدودٌ لمبلغ المال الذي يمكن مراكمته في أيدي الأفراد، ومن ثم المؤسسات بعد تكون فكرة الرأسمالية.

(4)

كان أرسطو متسلحاً بقناعة مؤداها أن دافع أفلاطون لفرض وحدة على المجتمع المدني، يدمر إمكانية قيام المجتمع السياسي، فالمدينة عند أرسطو ليست مثل العناصر التي تكونها. والأفراد والأسر ظواهر موحدة، لكن (المدينة مؤلفة من عدد الرجال، وهؤلاء الرجال مختلفون، ذلك لأن المتشابهون لا يمكن أن يوجدوا مدينة) أي أنه لا تكون عندنا مدينة إذا كان سكانها متشابهون، فهم عند ذلك سيكونون أسرة، أو حتى فرداً واحداً مكررا بعدد المتواجدين في تلك المساحة التي يفترض أن تكون مدينة.

ربط أرسطو وجود الحياة العامة بضمان وجود الحياة الخاصة، وأن الخصوصية وشعور كل رجل أنه يخدم ما يخصه هو الذي يطور فكرة المدينة، وليس شعور كل رجل أنه يخدم المصلحة العامة، فإن وضعت المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، لن يكون هناك مصلحة عامة.

لكن أرسطو، ربط المصلحة العامة بالحرية الناقصة للأسرة والأفراد، فلا يوجد امتياز يشترك به جميع المواطنين. وقد عرف أرسطو المواطن: بأنه إنسان يشارك في إدارة العدالة وإشغال المناصب. والمواطنة مقولة خُلقية تتحدد بأشياء أكثر من الولادة والإقامة وطاعة القانون.

(5)

يدخل أرسطو في توضيح فكرة الحكومة المختلطة، ويربطها بما يسمى (الصالح العام) ويقول عنه أنه شيء أكثر من كونه مجموع المصالح الخاصة كما أنه يمكن تحديده موضوعياً. ((فتلك الدساتير التي تراعي المصلحة المشتركة هي الدساتير الصحيحة، وهي التي تحكمها معايير العدالة المطلقة. أما الدساتير التي تراعي فقط المصلحة الخاصة للحكام فإنها الدساتير الخاطئة، أو هي انحرافات عن الأشكال الصحيحة)).

يقول أرسطو: أن (العدالة المطلقة) هذه متاحة لأغلب بني البشر إذا ما استخدموا عقولهم، وقد مكنت هذه البصيرة أرسطو من أن يصل الى تصنيفه المشهور للدول. النظام الملكي، والنظام الأرستقراطي، والحكومة المختلطة.

فإن المصلحة الخاصة ومنفعة الطبقة مشتركتان في الانحراف: (فالاستبدادية حكومة يديرها شخص واحد لمصلحته، والأوليغاركية (حكم القلة) تدار لمصلحة الأغنياء، والديمقراطية تدار لمصلحة الطبقات الأفقر. ولا شكل من هذه الأشكال يُدار لمنفعة المواطنين ككل).

كل المجتمعات تتألف من عوائل مختلفة ومن طبقات وصنائع وأنساب ومراتب. ولا يمكن أن تتحقق الحكومة المختلطة إلا إذا راعت دساتيرها التعددية المتأصلة في الحياة الاجتماعية.

(6)

في كل الدول، هناك ثلاثة أقسام أو طبقات متميزة من المواطنين، الطبقة الغنية جداً، والطبقة الفقيرة جداً، والطبقة الوسطى التي تشكل الحال الوسط. إن الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة تنقادان، على الأرجح، بالجشع والخوف وعدم الشعور بالأمان. فالطبقة الغنية لا تعرف شيئا غير الحكم، والطبقة الفقيرة لا تعرف شيئا غير الطاعة.

أما الطبقة الوسطى، فمن المرجح أن يكون لها أعداء أقل من الطبقتين الأخريين. الراجح أن تكون الطبقة الوسطى، بإذعانها للعقل والانضباط والاعتدال، أقل عنفاً وطموحاً وطمعاً من الطبقتين الأخريين.

والدول التي تتشكل من الطبقة الوسطى تستطيع حماية الغني من طمع الفقير والفقير من جشع الغني، وتنظيم الواجبات الضريبية.

ومن هنا فإن أرسطو دعا الى تشكيل المجتمع المدني الذي ينظم المجالات المنفصلة للحياة من خلال الدولة وهيكلها والمحيط الذي تعيش فيه تلك الدولة لتنظيم ذلك المحيط بما يتناغم مع أهداف الدولة.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس