عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-01-2009, 07:09 AM   #24
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

ولم ينسَ صلاح الدين وسط تلك الأيام الجليلة، الحافلة بمظاهر البهجة ومجالي السرور، أن في عنقه أمانة غالية يجب أن يؤديها حقها.

كان المسجد الأقصى ينتظر منبرا رفيعا زخرفته الأماني وزينته الآمال، وكلها أماني العروبة الإسلام، وكان المنبر قد صنع على أبدع ما صنع، بأمر من بطل عظيم، مات وأبصاره متطلعة صوب بيت المقدس، فمن البطل، وأين المنبر ؟

ذلكم هو الملك المجاهد نور الدين محمود بن زنكي، صنع المنبر قبل وفاته في حلب، وظل المنبر في حلب ينتظر بضع سنوات، حتى أذن الله بالنصر، وحمل صلاح الدين منبر نور الدين إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفاء للكفاح ورمزا للجهاد .

وقامت دولة الشعر، وطلع على الدنيا أدب "القدسيات" يمجد فتح بيت المقدس ويشيد ببطولات صلاح الدين. فما بقي وزن ولا بحر، ولا قافية ولا روي، إلا وأنشد لهذه الأمجاد وخلد ذكرها أبد الدهر.

وكان من أوائل الذين وصلوا إلى مخيم السلطان صلاح الدين من مصر الجواني المصري، وقصيدته مطلعها:

أترى مناما ما بعيني أبصر
القدس يفتح والفرنجة تكسرُ
ومليكهم في القيد مصفود ولم
يُر قبل ذاك لهم مليك يكسر


وعن صلاح الدين:

نثـر ونظـم طعنـه وضرابـه * فالرمح ينظم والمهند ينثر
حيث الرقاب خواضع حيث العيون * خواشع حيـث الجيـاه تعثر


وهذا الملك المظفر تقي الدين، ابن أخِ صلاح الدين، "وأحضر إلى قبة الصخرة أحمالا من ماء الورد، وتولى بيده كنس مساحاتها وعرصاتها، ثم غسلها بالماء مرارا حتى تطهرت، ثم أفاض عليها ماء الورد، ثم طهر حيطانها وغسل جدرانها ثم بخرها بمباخر الطيب".. هكذا يكون الحب والمحبوب. وكذلك تكون العبادة والعابدون. شأنهم في ذلك العاشق الولهان الذي راح "يقبل ذا الجدار وذا الجدارا" وقد فتنه "حب من سكن الديارا".

وهكذا احتفل بيت المقدس بالمعراج والإسراء كما لم يحتفل به في أي عصر من العصور من قبل ومن بعد، فلقد كان معراجا في موكب النصر، وكان إسراء في ركب التحرير.

وانطلق بيت المقدس في مباهجه ومسراته، وتجاوبت أصداؤها في كل أقطار العروبة وأمصارها وهي تردد ما قاله الشاعر المصري ابن سيناء الملك، مهنأ صلاح الدين بذلك الفتح المبين:

لسـت أدري بـأي فـتـح تُهنـا *يا منيل الإسلام ما قـد تمـنى
أنـهنيـك إذ تمـلكـت شـامـا* أم نهنيك إذ تملكـت عدنـا
قد ملكـت الجنـان قطـرا فقطـرا* إذ فتحت الشام حصنا فحصنا
إن دين الإسـلام منّ علـى الخلـق * وأنت الذي على الديـن منّـا
لك مدح علـى السمـوات ينشـا *ومحـل فـوق الأسنـة يبـنى
تخرج الساكنين منه ورب البيـت * في بـيـته أحـق بـسكـنى
كم تأنى النصر العزيز على الشـا * م ولمـا نهـضـت لم يتـأنى
قمت في ظلمة الكريهة كالبدر سنا* ءً والبـدر يـطـلـع وهنـا
لم تـقـف قـط في المـعـارك إلا* كنت يا يوسف كيوسف حسنا
يجتنى النصر من ظباك كـأن الـ * عضب قد صحفوه فصار غصنا
قصدت نحوك الأعادي فـرد الله * مـا أمـلـوه عنـك وعنّـا




واليوم يتساءل المواطن العربي، وهو يستعرض هذه المعارك التي خاضها صلاح الدين، من عسقلان إلى بيت المقدس إلى صفد إلى بانياس إلى اللاذقية، والى العديد من القلاع والحصون-يتساءل المواطن العربي، كيف سقطت فلسطين بأسرها في عصر الملوك والرؤساء، وكيف سقطت معها سيناء والجولان؟؟!!

وإنا لنجد الجواب حاضرا، على لسان أصدقاء صلاح الدين ورفاق جهاده. فلقد عرفوا صلاح الدين، كما نعرف الملوك والرؤساء، وما علنيا إلا أن نقرأ ما قالوا:

قالوا"…. كان السلطان صلاح الدين شجاعا شهما مجاهدا في سبيل الله، وكان مغرما بالإنفاق في سبيل الله…. وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهزل، ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل، وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانا لتواضعه". وأين هذا من أخلاق الملوك والرؤساء!!.

وقالوا، " أن صلاح الدين كان مناضلا أصيلا، وكان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلاته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة"

وأين هذا من سلوك الملوك والرؤساء!!
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس