الموضوع: صور وتعليق
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 01-07-2006, 02:09 PM   #875
أحمد ياسين
ضيف
 
المشاركات: n/a
إفتراضي






العراق الصومالي
إقتباس:
فاضل الربيعي

قبل التاسع من أبريل/نيسان 2003 لم يكن الصومال يشبه العراق في أي شيء، وبعد التاسع من أبريل/نيسان 2003 أصبح العراق يشبه الصومال في كل شيء.. عادت الدولة إلى طور ما قبل الدولة والمجتمع إلى طور ما قبل المجتمع.

بدلاً من أجهزة الدولة حلًت مليشيات فالتة من أي سيطرة.. أمراء حرب يسيطرون على مقدرات البلاد والعباد.. فوضى وخراب في كل مكان.. فدراليات وشبه فدراليات. الصومال صار صومالات، والعراق في طريقه لأن يصبح "عراقات".

حتى الصراع الدامي الذي وقع مؤخراً بين الجماعات المسلحة (حصد في مقديشو وحدها وفي يوم واحد نحو 150 بريئاً خلال الأسبوع الثاني من أيار/مايو الماضي)، تزامن تقريباً مع ما يماثله من عمليات قتل مريعة وذات طابع يومي منتظم في بغداد، سجلتها إحصائية للطب العدلي بمعدل يومي يفوق 400 جثة مجهولة الهوية.

"
الجثث في الصومال والعراق غالباً ما تُترك في العراء أو على الطرقات العامة أو يُعثر عليها بين أكوام القمامة. الفارق الوحيد والنسبي بين جثث مقديشو وجثث بغداد، أن الأخيرة تتعرض إلى نوع فريد من عمليات الجراحة يقوم بها جراحون جدد تخرجوا من دورات فرق الموت
"
الجثث في الصومال والعراق غالباً ما تترك في العراء أو على الطرقات العامة، أو ُيعثر عليها بين أكوام القمامة. بعض الجثث في بغداد تصل إلى البرادات وتظل هناك لأيام بانتظار التعرًف عليها قبل دفنها في مقابر جماعية.

بالمناسبة يمكن لأي مراسل صحفي نزيه أن يحصل -ودون كثير عناء- على تقرير مفصل عن معدل آخر مثير، إذ في سادس كل خمسة أيام متتالية هناك مقبرة جماعية.

يقوم الطب العدلي في بغداد غالباً وبواسطة محسنين مجهولي الهوية، بحفر مقابر جماعية لدفن ضحايا مجهولي الهوية أيضاً. بعض المغدور بهم لا تتمكن أسرهم من التعرًف عليهم لشدة التشويه، إذ لا يكتفى بإطلاق الرصاص على رؤوس الضحايا وإنما يجري التمثيل بوجوههم وإلى الحد الذي تنعدم معه -رغم كل التحريات- أي إمكانية للتعرف على الضحية.





الفارق الوحيد والنسبي بين جثث مقديشو وجثث بغداد، أن الأخيرة تتعرض لنوع فريد من عمليات الجراحة يقوم بها جراحون جدد تخرجوا من دورات "فرق الموت". إنه نوع وحشي لم يألفه تاريخ التعذيب كما كتبته البشرية عبر العصور: ثقب الجمجمة والوجه والأيدي بالمثقب الكهربائي.

واحد من هؤلاء الضحايا المجهولين لم يتسن له رواية قصة خطفه، أو قصة العثور على جثته في حاوية للقمامة في منطقة المعالف بمنطقة الدورة (بغداد). الطبيب الشرعي تولى بالنيابة عن المغدور به رواية قصة الموت المفجع.

جاءت زوجة المغدور الذي يعمل ميكانيكياً للسيارات ولم ُيعرف له في أي وقت أي نشاط سياسي، إلى الطب العدلي فور تلقيها نبأ اختطافه. سألوا: للتوً تم خطفه؟ ابحثي عنه إذن في معتقلات الداخلية؟ قالت: كلا.. سأنتظره في الطب العدلي.

الزوجة رأت بأم عينها مليشيات فيلق بدر وهم يختطفون زوجها من مكان عمله. قال الطبيب المسؤول: لم تصلنا الجثة بعد، يمكنك العودة غداً.

الزوجة لم تتقدم بأي بلاغ عن اختفاء زوجها إلى أي جهة رسمية.. أيقنت أنه أصبح الآن جثة. إذا لم تعثر عليه في براد الطب العدلي، عليها أن تبحث في حاويات القمامة.. استسلمت لقدرها وأيقنت أنه سيصل المشرحة عاجلاً أم آجلاً.

في اليوم التالي عرض الطبيب الشرعي على الزوجة المفجوعة صوراً على جهاز حاسوب عملاق نُصب داخل الطب العدلي، بينما كان آلاف الناس يتكدسون فوق بعضهم وهم يمعنون النظر في الصور المعروضة، حيث راحت الصيحات تتعالى من حولها: توقف، هوذا.. كلا، ليس هذا.. إنه أبي.. استمر.. لا ليس هو.. له شارب أبيض.. توقف، هذا ابني.

بعد انقضاء يوم كامل تقريباً، أمكن التعرًف على أقرب صورة محتملة للمغدور. طلب الطبيب الشرعي من الزوجة أن تدخل للتعرف على زوجها. مخدع الزوجية الجديد عبارة عن رفوف من أسياخ الحديد.. الجثة عارية فوق الأسياخ.

على الزوجة أن تمعن النظر في النصف الأسفل.. أسرار المخدع الزوجي يمكن أن تكون صالحة في مثل هذا النوع من التحريات.. الزوجة خامرها بعض الشك.. شاربه أسود.. قال الطبيب "ليس لوناً أسود، إنه دم متخثر". أزال عامل التنظيفات في الطب العدلي الدم المتخثر، ولكن الوجه كان مختلفاً.. تغيرًت الهيئة بشكل صارخ.. إنه كائن آخر لم يبق جزء فيه من دون أن ُيثقب بالمثقب الكهربائي.

"الآن يمكنك استلام زوجك".. ظلت الزوجة حائرة وخائفة، "إذا لم تتسلمًيه فسنقوم بدفنه في مقبرة جماعية" قال الطبيب.

من الأفضل في هذه الحالة وطبقاً لتعاليم الدين الإسلامي والثقافة المجتمعية، أن يدفن المرء شخصاً مجهولاً -أو بافتراض أنه مجهول- من أن يترك في العراء وحيداً، أو أن يدفن غريباً في مقبرة جماعية. هذا النوع من الدفن يمثل من الناحية الرمزية نوعاً من الانتساب إلى قبيلة جديدة هي قبيلة الموتى الغرباء.

حتى هذا المشهد بتفاصيله المأساوية يكاد يشبه مشهداً يومياً في مقديشو.. الرجال والنساء يتجمعون كل يوم لاستلام حصتهم من الجثث.

"
يقال إن مقديشو أخذت اسمها من القداسة, ويقال إن بغداد أخذت اسمها من معنى مماثل في اللغة الأكدية القديمة (دار السلام)، لكن لم يتبق من القداسة في اسم العاصمة الصومالية أي أثر, وبغداد لم تعد بكل تأكيد دار السلام
"

يقال إن مقديشو أخذت اسمها من القداسة (مقدش تعني قدس)، ويقال إن بغداد هي الأخرى أخذت اسمها من معنى مماثل في اللغة الأكدية القديمة(دار السلام). لم يتبق من القداسة في اسم العاصمة الصومالية أي أثر، وبغداد لم تعد -بكل تأكيد- دار السلام.

خارج هذا المشهد المتكرر في البلدين، ثمة أوجه شبه أخرى.

"تحالف الأمن ومكافحة الإرهاب" في الصومال يخوض حرباً دامية ضد المحاكم الشرعية الإسلامية.. الجماعة الأولى يدعمها الأميركيون، أما الثانية فيزعم أن لها صلة بالقاعدة.. الحرب متواصلة ولا أمل في التهدئة.

تحالف آخر في العراق يخوض الحرب نفسها: مليشيات الأحزاب الدينية ومغاوير وزارة الداخلية (لواء العقرب، لواء الذئب وقطعات من ألوية وزارة الدفاع) تؤلف "تحالف الأمن العراقي ومكافحة الإرهاب". على الطرف الآخر قوى مقاومة للاحتلال يطلق عليها الأميركيون التعبير نفسه المستخدم في الصومال: الإرهابيون (مجلس شورى المجاهدين لديه محاكم شرعية أيضاً).

الصوماليون فروا من جحيم بلادهم الممزقة إلى شتى بقاع الأرض.. بضعة ملايين تعيش اليوم أكبر محنة منسية في التاريخ في دول الجوار.

العراقيون يفرون جماعياً من العراق الديمقراطي.. إلى سوريا وحدها وصل نحو مليون عراقي، وفي الأردن ومصر لا تزال أعداد العراقيين تتدفق دون انقطاع، وعمان مرشحة لاحتضان الرقم مليون ونصف.

داخل الصومال مخيمات تضم آلاف اللاجئين.. إنهم في العراء بعد عمليات تطهير عرقي لا نهاية له.. جائعون ومشردون ومنسيون.

في العراق بلغ عدد الأسر المهجّرة من مناطق سكناها في حملات "التطهير المذهبي" أكثر من 200 ألف أسرة تتوزع بين سامراء والنجف وكربلاء وأطراف بغداد. هذه إحصائية الهلال الأحمر العراقي الذي يتولى توزيع المساعدات الإنسانية على الجائعين والهاربين من الجحيم.

في الصومال حكومة وبرلمان لا يسيطران حتى على جزء من مدينة جوهر الصغيرة. المسؤولون ومع اشتداد العزلة حملوا أمتعتهم وغادروا المقر الحكومي إلى مكان آخر. في العراق حكومة وبرلمان ضاقت الأرض بهما إلا في المنطقة الخضراء (15 كلم2 فقط).

الرئيس الصومالي يهدد بإقالة أمراء الحرب إن لم يتوقف القتال.. مجرد تهديد فارغ. الرئيس العراقي يرغب كما يبدو في إطلاق التهديد نفسه: إقالة أمراء الغزو. ولكن ما باليد حيلة.

الأميركيون من وراء ستار يؤيدون حل المليشيات، باستثناء المليشيات الكردية لأنها ليست مليشيا بل قوات نظامية في مشروع دولتين كرديتين صغيرتين رسمت خرائطهما في أربيل والسليمانية.

في الواقع هم لا يريدون حلها، ويرغبون في تكريس صورة عراق صومالي على مقاس أمراء الغزو. ومع ذلك فإن الشبه الأكبر الذي يجمع العراق بالصومال لا يكمن في هذا النوع من المقاربات, وإنما في مستوى آخر من التماثل.

الأميركيون كانوا هناك، تماماً كما هم هنا اليوم. بعد سقوط حكم الرئيس سياد بري وصل الأميركيون بحجة تقديم الطعام للجياع، وفي العراق وصلوا لإسقاط حكم الرئيس صدام حسين بحجة تقديم الديمقراطية (لشعب يستحق نظاماً آخر).

الصوماليون كانوا جياعاً بالفعل، ولكنهم لم يتناولوا "الهوت دوغ" حتى اللحظة.

"
عام 1991 هرب الأميركيون من الصومال وتركوه في مهب الريح, وبعد ثلاث سنوات يستعدون في الذكرى الرابعة للغزو لأن يهربوا من العراق
"
العراقيون كانوا عطاشاً للديمقراطية (كما تقول الرواية الرسمية للبيت الأبيض وبعض العراقيين صدق ما قاله هؤلاء: شعبكم يستحق نظاماً آخر)، ولكنهم لم يذوقوا طعم الديمقراطية قط.. بدلاً منها تجرًعوا كؤوساً من السمً الزعاف، كأساً بعد آخر دون توقف.

عام 1991 هرب الأميركيون من الصومال وتركوه في مهب الريح. الأميركيون وبعد ثلاث سنوات، يستعدون في الذكرى الرابعة لغزو العراق لأن يهربوا منه.

للصوماليين اليوم "تحالف الأمن ومكافحة الإرهاب"، وللعراقيين تحالف مماثل. كل ما يعوز التجربة العراقية أن تعلن جماعة الزرقاوي -مثلاً- تشكيل محاكم إسلامية تدير الفراغ القضائي في العراق، ما دامت الجرائم ترتكب هنا دون أدنى خوف من القصاص. تماماً كما فعل الصوماليون الذين تمكنوا بفضل هذه المحاكم من تحقيق نوع من التعويض الرمزي لمحو الدولة.

بفضل الأميركيين إذن انعدمت كل الفوارق بين البلدين العربيين.. أصبح الصومال الآن "عراق أفريقيا" في حين أصبح العراق "صومال العرب" الآسيويين.

في منتصف التسعينات من القرن الماضي ذكرت تقارير منفصلة أن الخرائط التي يعدها الأميركيون للمنطقة تتأرجح بين خيارين: اللْبَننة (من لبنان) والصوْملة (من الصومال).

وفي تقارير ودراسات إستراتيجية أخرى، جرى الحديث عن صورة مفزعة للعرب: إعادتهم إلى الوراء بألف عام.. قبائل تهاجم قبائل أخرى لافتراسها وتقطيع أوصالها.