الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 09-11-2006, 04:56 PM   #37
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

قاطف الزيتون :

لو أصدرت حكومة ما بلاغا أو قرارا أو إهابة للمواطنين أن يتبرعوا بقرش واحد للمساهمة في وقف زحف الصحراء، لتبرم الجميع وتخلف قسم كبير منهم عن دفع ذلك الرسم الصغير لعمل ضخم ووطني .. لكن ما أن تنتشر إشاعة أو اعتقاد خاطئ في أن التوجه لعمل ما هو من الأهمية بمكان وسيعود بأرباح هائلة لمن يعمله، لسارع الناس بسرعة البرق الى تقليد من ابتدأ بهذا العمل، دون فحص لما سيؤول إليه مصير العمل، ودون وضع دراسة جدوى اقتصادية، إنها مسألة تتكرر في كثير من الأمور ..

لم يكن هناك في الماضي اهتمام واضح بزراعة الزيتون، في كثير من بقاع بلادنا، ولكن خلال أربعين عاما، انتشرت زراعة الزيتون وفق السيرورة التي ضربناها بالمثل السابق، فأصبح من السهل على المار بسيارته فوق طرق معبدة أو ترابية أن يلحظ بساتين الزيتون منتشرة في كل مكان محتلة مساحات كانت تخصص لحقول القمح والعدس و غيرها من المحاصيل الحقلية التي ارتبطت بتراث كثير من الفلاحين الاقتصادي ..

كان تعدد مصادر الرزق للناس وتنوعها، جعلهم يبتعدون عن التشبث بزراعة الحبوب، كما أن تغيير أنماط المباني و استغناء البيوت عن الحيوانات المنزلية المنتجة كالأبقار والأغنام وغيرها، و تطور قوانين البلديات بمنع اقتناء مثل تلك الحيوانات، وارتباط البساتين بفكرة السياحة وقضاء وقت للمتعة بينها، كل ذلك وغيره، كان وراء هذه الفورة وراء زراعة الزيتون بتلك الكثرة ..

كثير من البساتين اندثرت قبل بلوغها مراحل الانتاج، ومع ذلك فإن الزراعة لتلك البساتين لا زالت على قدم وساق، وقد حاول الكثير من المختصين ثني هذا الاندفاع، بذكر صعوبة الري البديل، وعدم ديمومة مثل تلك البساتين ولكن دون جدوى..

في مراحل قطف الزيتون والتي تتزامن مع أواسط الخريف وبداية الشتاء، تنتشر مجموعات من الناس بين تلك البساتين لقطف الثمار، والذهاب بها الى المعاصر للحصول على زيت الزيتون الذي يحتل مكانة مرموقة في ذاكرتهم الشعبية والدينية ..

من السهل على المار أن يلحظ أستاذا جامعيا يضع على رأسه رباطا من قماش عتيق، ومعه زوجته وأطفاله يتسلقون شجرة ويقطفون ثمارها.. كما من الطبيعي جدا أن تجد أسرا فقيرة تتحين الموسم، لتخرج في تلك الأيام الباردة صباحا والماطرة في بعض الأحيان، لتقطف مقابل أجرة معلومة أو نسبة من المحصول، وتتفاوت اهتمامات المالكين بالقطف بأيديهم من مالك لآخر، معتمدة على حجم الملكية ومصادر الرزق الأخرى، فمنهم من لا يستأجر قاطفا حتى لو كان يملك آلاف الأشجار، ومنهم من يستأجر قاطفين حتى لو كانت أشجاره بالعشرات ..

في اليوم الأول للقطف، يأخذ طابع الرحلة الترفيهية، فيتضاحك الأطفال، ويغني الرجل بعض المواويل أسوة بقصص التراث غير البعيد، وهناك من يحضر الشاي وهناك من يحضر طعام الغداء، ولا أحد يهتم بحجم الناتج ، فالطابع العام مصبوغ بعمل رفاهي أو (نزهوي ) ..

في اليوم التالي يختفي بريق النزهة من العمل، ويصبح الحديث عن توقعات الانتهاء من العمل له ما يبرره، وفي اليوم الثالث سيقوم بعض الفتية بعد الأشجار التي تم قطفها و الأشجار التي لم تقطف بعد، ويذهب بحسبة بسيطة عن الوقت الذي سينتهي به هذا العمل الممل ..

في حين يرى الرجل وزوجته الأكياس الممتلئة بالزيتون، وهم يرتشفون بعض الشاي، ستكون عمليات الحساب على قدم وساق، لو قلنا أن الكيس به خمس وأربعون كيلوغرام وكل خمسة كيلوات زيتون أعطت كيلو من الزيت فإنه سينتج عندنا كذا (تنكة) .. فيبادر الزوج، سنبعث لبيت أختي واحدة وبيت عمتي واحدة وبيت فلان .. فتتكدر الزوجة، وتقول: حرام لو أتت فلانة وأبنائها ليعاونونا ؟

لقد كان الناس خصوصا الذين لم يتحملوا مسئولية وضع ميزانيات الأسرة يتمنون أن لا تكون مواسم القمح أو العدس جيدة، حتى لا يتكبدوا عناء العمل الشاق بالحصاد و الدراس و التذرية و القطف والتخزين، ولا يهمهم إن كانت تلك الأماني لا توفر لهم حياة أفضل أم لا .. كما أنهم لم يسرهم وجود آبائهم بوضع متكدر عندما تكون المواسم سيئة .. إنها معضلة الفلاحين وأبنائهم باستمرار .. وكان هناك من الفلاحين من يربطوا زواج أولادهم أو شراء ثياب جديدة لهم بالموسم الجيد، وهو أسلوب ترغيب ذكي لشحذ همم أفراد الأسرة.

لقد اختفت تلك المشاعر المعقدة بظهور مكائن الحصاد التي اختصرت الوقت والشقاء لأفراد الأسرة، ولكن بثورة الزيتون عاد الشقاء المتمثل بتحمل القطف في البرد، محل شقاء الحصاد في الصيف ..

وعندما تخرج نصيحة من خبير ويتناقلها أصحاب الزيتون، بأنه لا تضربوا الأشجار بالعصي، فإن عادة حمل الزيتون تكون على دوابر ثمرية عمرها سنة الى سنتين، وهذا يعني أنكم إن فعلتم هذا فلن يكون لديكم موسم قادم لأنكم ستكسرون كل الدوابر الثمرية التي ستحمل في العام القادم، وهي ظاهرة (المعاومة) التي يعرفها مربي أشجار الزيتون. في تلك الحالة يتكدر الفتية من تلك النصيحة، ذلك بأن عليهم أن يقضوا أياما إضافية في عمل القطف!

من السهل مشاهدة نسوة في الصباح الباكر، يتنقلن بين البساتين التي تم قطفها للبحث بين أغصانها، عن ثمار منسية، وكان أصحاب البساتين يتسامحون في النظر لتلك الظاهرة على أنها ظاهرة طبيعية وتتسم بالإحسان. لكن هناك من النسوة من كانت تبدأ صباحها الباكر بالتجول بين أشجار بساتين لم تقطف بعد، ثم يضفين مسحة إخراجية على جولتهن في بساتين تم قطفها، فتجدهن يحملن على رؤوسهن أكياسا بها ما يقرب الأربعين كيلو في الثامنة صباحا!
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس