الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 22-09-2006, 01:36 PM   #35
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

أبو فرحان الملاَك :

هناك أشخاص لا يعرفون العمل ، وما معناه ، ومع ذلك يعطون آرائهم بموضوع العمل ، وقد يصلوا الى أعلى المراتب في المجتمع ، ويساهمون في وضع قوانين للعمل ، وهم لم يمارسونه طيلة حياتهم .. وقد يعتبرون وضعهم طبيعيا جدا ، إذ أن هناك من يجب أن يعمل من أجلهم !

من هؤلاء الناس تجد طبقة الملاَكِين ، الذين يعتقدون أنهم ورثوا عن آبائهم وأجدادهم ما ورثوا لينعموا هم بالراحة و عدم العمل ، وقد يدعموا آرائهم ببطولات قد تكون حقيقية وقد تكون وهمية ، وهو الغالب ، فقد تكون ثروة هؤلاء التي ورثوها جاءت عن كد و تعب الأجداد و قطع اللقمة عن أفواههم ليحولوها الى عقارات ، وقد تكون ثمنا لخيانات قدمها أجدادهم لسلطات الاحتلال فأصبحوا ملاَكين ..

وهناك أناس يثرون بالصدفة من امتلاك أراض حقيرة غير منتجة ، لكن قرارا إداريا جعل أراضيهم ذات قيمة ، فترتفع أثمانها بشكل خرافي ، يجعل ورثتهم من الأثرياء ..

كان أبو فرحان يجلس على (دكة ) صنعت من الطين و الحجر وطليت بطبقة رقيقة من الإسمنت ، أنشئت عند بوابة بيت منزله ، بعرض يستوعب فرشة رقيقة من القطن ، كانت تمد له عندما يصل الظل لها بعد الظهر ، كان يجلس عليها ، وقد تدلت أنسجة خديه لتكون بشكل شبيه بالكرتين المسطحتين بجانب طرفي فمه ، كان يخيل لمن يراه أن تلك الكرتين قد تكونتا بفعل الجاذبية الأرضية ، حيث أجبرت تلك الجاذبية بانزلاق محتويات أنسجة وجهه لتستقر في ذلك المكان .. كما تطاولت الجاذبية على مقلتيه فسحبت أطرافها للأسفل ، لتكشف عن بياض مصفر في عينيه أفقدهما هيبتهما ، فبدا صاحبهما كنموذج غير متقن في متحف الشمع ..

كانت زوجته الثانية ، تجلس بجنبه في هذا المشهد اليومي ، ليرقبوا لا شيء بل يمضون طقسا يوميا ، بشكل أزلي ، يضعان بالقرب منهما ( سخان) قهوة ، يسكبان منه بعض القهوة بتثاقل و بلا حماس ..و قنينة ماء مثلجة ..

إنه كان في جلوسه ، يحرك حدقتا عينيه بملل ، عساهما يقعان على جسم يعرفه ويستعيد بعض ذاكرته المهشمة ، من خلال النظر لابن من أجياله ، تأخر قدره في طلبه كما تأخر في طلب أبي فرحان نفسه ..

لم يهنأ أبو فرحان بأملاكه الواسعة التي كانت تزيد عن مائة هكتار من الأراضي الزراعية الجيدة ، وكان يحول ما تنتج من حبوب ، الى أراض يشتريها من المعوزين ، لتزيد أملاكه باستمرار .. كان يعمل بيده ، ويفاصل من يعاونه على الأجرة ، وبعد إنجاز الأجير يقص من قيمة ما يدفعه له ، متذرعا بأن الأجير لم يبذل جهدا يعادل ما اتفقا عليه ، وأن ظنه خدعه في تقدير الأجرة ، كان الأجراء يعرفون طبعه ، فيحاولوا زيادة ما يتفقون عليه ، لضمان أخذ أجرتهم بعد الاقتطاع المعهود ..

كان ذات مرة ، قد أتى لدكان ، وكان صاحب الدكان قد أحضر للتو صينية واسعة من الحلويات الشعبية ( هريسة ) وهي تتكون من السميد والسكر والسمن ، ويثبت فوقها حبات من الفول السوداني المحمص ، فسال لعاب أبي فرحان ، فانحرف قليلا واستخرج من جيبه منديلا معقود فحل عقدته فأخرج منديلا آخرا من داخله فحل عقدته ، فوقعت يده على بعض النقود النحاسية الحمراء تقريبا ، فمسك بين أصبعيه قرشا ، ليشتري به بعض الحلوى لنفسه ، ثم خاطب نفسه قائلا : الله يذلك أيتها النفس مثلما أردتي إذلالي ، فأعاد القرش الى المنديل الأول وشد عقدته ، ثم أعاد عقد المنديل الثاني و انصرف ، منتصرا على شهوته ..

عندما ماتت أم فرحان ، ضغط عليه بعض الأقارب فأقنعوه بالزواج وكان عمره في وقتها ، حوالي الخمسين ، وكان ذلك قبل اثني وثلاثين عاما ، وكان له من أم فرحان ثلاثة أبناء ذكور يشبهونه في حرصه على المال ، وابنتين تزوجتا منذ وقت طويل .. فتزوج أم حسين التي تجلس جنبه في المشهد اليومي ، وكانت أم حسين ماكرة ، فسجل معظم ممتلكاته باسمها و احتفظ بالربع تقريبا ..

وعندما كبر حسين ، وأحس بأنه يتكئ على قوة والدته العظمى ، أطلق العنان لعفريت الشهوات الذي كان محبوسا في قمقم منذ آلاف السنين ، ليهتدي حسين بمساعدة والدته التي فكت طلاسم زوجها من قبل ، على فك طلاسم العفريت .. فلم تعد الهريسة إلا شيئا حقيرا لا يشتهيه لا حسين ولا والدته ، حتى الكنافة والبقلاوة ، بل لم تعد السهرات في عواصم دول قريبة إلا كمشوار قريب ، لقد ابتكر حسين طرقا في إفناء ثروة والده ، فلم يتبق منها شيئا خلال عشرة سنوات ، فمن سيارة حديثة الى أخرى ومن لعب قمار في صالات الفنادق ذات النجوم الكثيرة .. الى كل دروب الفحش و التبذير .. حتى آتى على كل ما جمعه والده .

اقترب الغروب ، فطلبت أم حسين من زوجها أبي فرحان ، وكانت تناديه بأبي حسين .. أن يدخل الى المنزل .. أبو حسين .. أبو حسين .. ولكنه لم يجاوبها فعندما هزته خر ساقطا عن الدكة منتهيا ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس