الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-08-2006, 02:10 PM   #33
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سيد غني الميكانيكي :

تجد بين البشر نماذج بطولية ، لم يتعرف الى بطولتها إلا من كان قريبا منها ، وكونها لم تكن من علية القوم ، فلم يكتب أحد عنها ، ولم تكن تلك النماذج تمارس بطولتها ، ليكتب أحد عنها . فهي كالنمل تتشابه في اللون مع أبناء طائفتها ، وتقوم بتضحيات لتطفئ نارا بجسدها الضئيل ، وهي تعرف أن ليس هناك من يخلدها بالتاريخ ..

كان سيد غني رجلا في الخمسين من عمره ، يتعلم في مدارس محو الأمية ، ويشرف على إدارة قسم المكننة الزراعية ، كرئيس فنيين ، فلديه من السواق ومعاونيهم ست وثلاثون فردا ، كان منهم العرب و الجرجر والشبك و التركمان والأكراد .. منهم من يقود ساحبة روسية ومنهم من يقود ساحبة إنجليزية ومنهم من يقود ساحبة يابانية ، أو رافعة وبلدوزر و مدرجة ..

كانت المكائن الموجودة بأعمار مختلفة ، فمنها من العهد الملكي ومنها ما بعده ، ولم تكن أعمارها تؤهلها لأداء مهامها بكفاءة عالية ، فأعطالها كثيرة ، وقطع غيارها غير متوفرة ، و الحواجز المكتبية و المكاتبات الطويلة تعيق وصول قطع الغيار من بلاد المنشأ بأقل من سنة ..

كل تلك الظروف ، وما رافقها في منتصف السبعينات من مصاعب ، صنعت من سيد غني بطلا ، رغم أنفه ، فلم يكن مسئوليه يعذروه في عدم قدرته على تصليح ما يعطب من تلك المكائن الكثيرة والتي لا يحل محلها ماكنة أخرى .. فكان لزاما على سيد غني أن يشغل مخه و يبتكر وسائلا لتصليح ما يعطب .

كان مبتسما باستمرار ، ذو بنية قوية ، وكذلك من في خدمته ، كانوا يتبارون في إنجاز ما يصعب إنجازه ، بتجريب يكلفهم جهدا عضليا هائلا ، فقد رأيتهم يتناوبون على الطرق على ( مسنن ) ضخم لبلدوزر روسي ، لمدة يومين كاملين حتى لا يكلفوا المنشأة استقدام خبير لاستخراج المسنن ، ولكن في النهاية اتصلوا بأرمني فجاء ومعه جهاز ( هيدروليك) لم يأخذ وقتا سوى ربع ساعة حتى استخرج المسنن الضخم من سلسلة الجنزير الضخم .

كان سيد غني يطوف على عدة محطات في عدة محافظات ( الحويجة/كركوك) و(صندور/دهوك ) و (اسكي كلك / أربيل) .. بالإضافة الى محطة نينوى مقره الرئيسي .. ويعود ليخبر من أرسله ، بأن مهمته تمت بنجاح ..

كان من بين المكائن ، ساحبة بلغارية بقوة 65 حصان ، تسير على جنزير (وليس إطارات) عرضها متر وربع و طولها متران دون المحراث الذي تسحبه ، كان المحراث يدور بقوة المحرك بواسطة مجموعة نقل صنعت من مادة نسبة الكربون بها عالية ، وقد امتازت هذه الساحبة في قدرتها على إزالة الأعشاب في خطوط بساتين العنب التي تزرع على أسلاك و المسافات بين خطوطها لا تزيد عن مترين .. فتزيل الساحبة كل الأعشاب و تهيض الأرض ، دون أن تؤذي الأشجار ، لأن المحراث مزود بمجس لين ما أن يمس ساق الشجرة حتى يبتعد عنها بكل لطف ..

تجمع في نينوى حوالي أربعين ساحبة عاطلة عن العمل من مختلف محطات القطر ، طمعا بأن يقوم سيد غني بتصليحها ، فكان يشخص العيب ، ثم يطلب من مديره تزويده بقطع الغيار اللازمة فيكتب مديره للمدير العام ، الذي يخاطب الوزير ليخاطب وزارة الخارجية ، لتبعث الى السفارة البلغارية ، وتعود الإشارة طالبة إرسال مواصفات وتطول المسألة ليأتي القطار القادم من بلغاريا ، به كل القطع عدا التي طلبت .. وتتكرر المسألة ..

فاجتهد سيد غني بأخذ القطعة و إحالتها لخراطين محليين في عملها من الفولاذ ، وكان ثمن القطعة 3 دولارات ، فاشترى 150 قطعة وأصلح كل ساحبات القطر ، فنال وسام الرافدين من الدرجة الثانية ..

ثم أتى لساحبة روسية ذات ثلاث إطارات تستخدم لغرس (عقلات المشاتل) كانت إذا تحركت يتبعها أكثر من 150 عاملة ليوجهن العقلة باتجاهها الى الأسفل ، فأضاف ترتيبا يتم مناولة العقل أوتوماتيكيا ، دون إشراك العاملات ، فوفر كما هائلا من الأيدي العاملة ، فنال وساما آخرا ..

ثم نظر الى قالعة بطاطا (فنلندية روسية ) .. فكانت تحطم درنات البطاطا ، ويلتصق بالدرنة كم من التراب و الطين مما يقلل من جودتها و يفقد المحصول جزءا كبيرا منه ، فلبس قضبان الماكنة المعدنية بغطاء كاوتشوك ، وأضاف مسنن ، ذا شكل بيضوي ، يزيل في حركته غير المنتظمة التراب العالق على الثمار .. فاستحق وساما ثالثا ..

كان سيد ظريفا لطيفا ، بعد كل إنجاز وبعد أي مكافئة تأتي له أو لمن معه ، يذهب فيأتي بكمية من اللحم والخبز والبصل و يضعهم في قدر ويتركهم تحت شجرة ( توت )عملاقة تقع قرب مضخة على نهر دجلة ، وبعد أن ينضج الطعام البسيط يتجمع جزء من الموظفين والمستخدمين ليتناولوا طعامهم بأيديهم بقصعات ، كانت أطيب من أي مآدب تعمل في قصور .. حتى أصبح هذا العمل تقليدا يتبرع به كل من ينال علاوة من مدير المحطة الى أصغر مستخدم من المستخدمين الستمائة .

كان سيد يروي نكاتا ممن يصدفهن في عمله ، فقد ذكر أنه يذهب للحويجة من أجل تشغيل مضخة عملاقة على (نهر الزاب ) ، وذلك في شهر أيار/مايو ، ثم يعود ليطفئها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ، وتبقى تلك المضخة التي تصدر صوتا كصوت القذائف المدفعية المتتالية ، تعمل ليلا ونهارا وتزود بما يلزمها وهي تعمل . قال لقد نسيت أدوات التشغيل في المحطة عندما أطفأتها ، فعدت بعد يومين لآخذ الأدوات ، فإذا بمن يسكن بالمنطقة يتوسل به ليشغلها ساعتين من الزمان ، كي ينام هؤلاء الناس .. فقد تعود السكان النوم على ضجيج الماكنة .

طوبى لكل العاملين الأبطال المجهولين ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس