عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 31-10-2009, 01:43 AM   #448
هـــند
مشرفة
 
تاريخ التّسجيل: May 2008
الإقامة: بلاد العرب
المشاركات: 4,260
إفتراضي

كثيرًا ما يجد الكاتب نفسه في غمرة ما يحيط به نازعًا إلى خلع معاطف التأني والروية مطلقًا العنان ومشمرًا السواعد لتلقائية التعبيرات وعفويتها تلك التي حينما توافق لحظة توهج مقترن بصفاء الفكرة ووضوح المجرى فإنها تكون أقوى ألف مرة من مألوف المبدعين عندما يضعون كوب الليمون أمامهم يرتشفون فيه وبين الرشفة والرشفة يستحلبون ألف فكرة .
والذي أراه في هذا النص هو ما أتحدث عنه ، حيث إن أختنا المبدعة العزيزة التي تشكو الخيام غيابها بشدة قد أحسنت الاتكاء على الحالة ورسمت من خلال أحرفها صورًا عديدة لا يستطيع القارئ إلا أن يدهش منها ومما وراءها من براءة طفولية عنيدة (إن جاز التعبير) تخلع هذا الركام الفكري الممل المسمى بالفلسفة لتصنع فلسفة إنسانية هادئة بعيدة عن تعقيد وتقعر المتلسفين وكذلك تعقيد وتقعر المعلقين على النص أمثالي .
وفي لحظة يطفح فيها الكيل لا يجد المبدع إلا أن يمطر المستمع بشجونه المحيطة به ليجبره على الاستمتاع بروعة التعبيرات وصدق البوح . وننظر إلى الأسطر الأربع الأُول :
تهاجمني الرياح من كل مكان،
تقتلع جذوري وتمحو تقاطيعي

لأصير تمثالا تقف
عليه طيور الحوم لتنوح عليها
وتبث في حناياها أشجان السنوات العجاف التي عاشتها
في غيابات الليالي الطويلة.

نجد فيها أن المبدعة تعمدت وضع الصور العنيفة بشكل مكثف متمثل في الأفعال :تهاجمني –تقتلع
وابتداء المقطعين بهذين الفعلين جاء ليجعل القارئ في قلب المشهد الإنساني المؤلم من خلال هذا
التطاير والاجتثاث ، وفي السطرين الثالث والرابع نجد إيقاع الحزن يرتفع وتزداد عدد كلمات
السطر الواحد ، تعبيرًا عن هذا الانفعال والتوتر المتصاعدين بتصاعد الحكي عن الحدث.
وعلى الرغم من اعتيادية التعبيرات في التمثال والسنوات العجاف إلا أن اقتران هذه التعبيرات
بالأسطر السابقة عليها جعل المشهد أكثر قتامة وألمًا لدى المتلقي .
ومع هذا الارتفاع في التوتر والتصاعد في الحدث نجد النزعة التشكيلية تعاود وجودها في
النص كما هو دأب مبدعتنا الغالية كما في هذا الأسطر :
تمر كل لحظة من أيامي المنفلتة من بين أناملي
لترسم خارطة من سواد يقف على كل خط منها شبح يخيل للناظرين أنه
يحرسني
ولم يعلموا أنه يتفنن في تمزيقي وبعثرة أشلائي

كان تصوير الأيام بالمنفلتة من بين الأنامل تعبيرًا جيدًا عبر عن سرعة مرورها وعن حالة الفقد والتي بدا فيها
وكأن المبدعة كانت تقبض عليها ثم انفلتت من بين أناملها ، وتأتي صورة الشبح الواقف على خارطة السواد
مخيفة بأشكالها وألوانها بل وبتصوراتها الصوتية لتبرهن للقارئ على عمق المأساة التي تبغي منه
مشاركتها إياها. ثم بعد ذلك تأتي الأسطر التالية لتلعب على وتر آخر غير الفقد وهو مفهوم الذات ،وكما
يرى علماء النفس أن الفرد يكون انطباعه عن ذاته من خلال المحيطين به ، فإن مبدعتنا أظهرت لنا
صورتها عن ذاتها من خلال رثاء تصورات الآخرين لها وفشلهم في إدراك حقيقتها في هذه الأسطر:

كنت أقول يوما أني شجرة يشتهي المارون قطف ثمارها

ويستهوي الزائرون الجلوس بظلها.

واراني اليوم جذعا يحن إلى من يعانقه

حتى لا يمتد عويله إلى الراقدين في قبورهم

ربما بدت التعبيرات في السطرين الأولين عادية لكنها كانت أساسًا للسطر الثالث والرابع ولا
يمكن فصلهما عنها ، والثمار والظل هنا تعبير عن بشاشة النفس وسعتها التي تجعلها محط
الأنظار إلا أنها قد صارت جذعًا يحن إلى من يعانقه ، ذلك التضاؤل والشحوب الذي هو
عادة الحياة والنفس في كثير من جوانبهما وتعود الصورة التكشيلية في امتداد العويل
إلى الراقدين في قبورهم ، وهنا أحسب أن الراقدين في قبورهم هي دلالة مجازية عن المنزوين
عن الآخرين والمتقوقعين حول أنفسهم حتى كأنهم من شدة ذلك صاروا أمواتًا حقيقيين .
والسطران الأولان في مقارنتهما بالثالث والرابع يجعلان القارئ بإزاء بعض الصور التي
درج البعض على تسميتها (كانت .. وأصبحت) وكانت الصورتان في تجاورهما باعثة للمتلقي
على الشعور بهذه المأساة والتوحد مع المبدعة في مأساتها .
ومع هذا القدر من السرد والإفضاء والإقناع المعتمد على الصورة نتقلنا المبدعة العزيزة إلى رحاب
البراءة الطفولية وتتخذ من الاستفهام الاستنكاري قاعدة لإطلاق صواريخ الأسئلة التي تدك حصون
النكد والكدر في النفس لتصبح السماء والأرض في متناول ناظري الإنسان ، نجوم وسماء وأرض
وبحار لاتحدها بنايات ولا يزيفها رسوم .
__________________

هـــند غير متصل   الرد مع إقتباس