عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-12-2010, 09:49 PM   #819
اقبـال
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2009
المشاركات: 3,419
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



12-12-2010 1356

الاحتلال بالصدمة.. نموذج العراق





د. خالد المعيني:

صممت صفحات الحرب على العراق وفق عقيدة عسكرية تقوم على أساس شل إدراك الخصم وتحطيم إرادته، لتحول تماما دون قيامه بأي فعل وجعله عاجزا عن إبداء رد فعل، هذه العقيدة أطلق عليها "عقيدة الصدمة" وهي نتاج لدراسات طبية ونفسية أجريت في مختبرات جامعية لصالح الاستخبارات العسكرية الأمريكية ثم وظفت سياسيا وعسكريا واقتصاديا في حروب وغزوات الولايات المتحدة الأمريكية.

ويعتقد منظروا هذه العقيدة أن هذا النوع من الصدمات هو بمثابة شكل من أشكال استثمار الصدمات الجماعية الكبرى، حيث يتم في ظلها تغريب وانتزاع إرادة الشعوب المحتلة- الفريسة- تحت ضغط ورهبة الإبادة والقتل والاعتقال وانتهاك الحرمات، والتعامل مع الاحتلال كنوع من الكارثة الطبيعية التي يفقد فيها السكان القدرة على التصرف بعقل جمعي أو وطني، فيعيشون تحت حالة من فقدان الذاكرة التي قد تصل إلى حد الغيبوبة والتشكيك وتشوهات حادة في حقيقة الهوية الوطنية "1".

الصدمة النفسية أو الشلل الإرادي بعد الاحتلال يتم من خلال مهاجمة الدماغ دفعة واحدة للإخلال والتحكم بوظيفته الطبيعية والذي يتحقق نتيجة كارثة، سواء أكانت احتلالا أو إعصارا أو هجوما إرهابيا أو انهيارا للسوق يضع السكان في حالة من الذهول، والصدمة الجماعية تنسف طبيعة الحياة ومنظومة القيم المألوفة لديهم، يعيشون بعدها حالة من عدم الاستقرار والانفصال عن الذات وإلغاء وتفريغ خزين الذاكرة الوطنية وتشويهها عبر سرقة الآثار وحرق المكتبات ودور الوثائق الوطنية وتدمير الدوائر ذات الصلة بالوحدة الوطنية لقطع أي صلة أو وشائج بين السكان.

وهذا الوضع يمثل بالنسبة لمخططي الاحتلال بالصدمة خط الشروع المثالي والمناسب لتحقيق مآربهم في المباشرة بتمرير ما لا يمكن تمريره في الظروف العادية من برامج وأنظمة سياسية واقتصادية دون أي اكتراث يذكر من طرف السكان لأنهم يعيشون تحت ذهول الصدمة، ويتخذ احتلال الشعوب بالصدمة ثلاث مراحل يكمل بعضها البعض:

- الصدمة الأولى، الاحتلال العسكري واستخدام القوة المفرطة لشل إرادة الخصم تماما وتفكيك صمامات الضبط الاجتماعي والوحدة الوطنية.

- الصدمة الثانية، فرض قسري لنظام وطبقة سياسية ومنظومة قيم اقتصادية ترتبط تماما بأهداف الاحتلال.

- الصدمة الثالثة، مصممة ضد كل من يعارض أو يقف بوجه الصدمتين الأولى والثانية "المقاومين" بالاعتقال والتعذيب والاغتيال.

هذه العقيدة هي الوجه الثاني والمكمل ًلعقيدة أخرى لا تقل خبثا وخطورة، وهي رأس الرمح لتشكيل ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد الذي يتناغم في نهاية الأمر مع خطوط التقسيم الجديدة للصراعات في القرن الحادي والعشرين القائمة على أساس عرقي وطائفي وديني، تلك هي نظرية "الفوضى البناءة". ويعد برنارد لويس "2" من أهم منظريها. يقوم جوهر هذه النظرية على صدم المرضى وإعادتهم إلى نوع من الفوضى كمقدمة للتفكيك وإعادة التركيب، بمعنى آخر إن التفكيك من خلال الفوضى سيتيح ظروفا أكثر ملاءمة لإعادة بنائهم بصورة نموذجية.

ثم مزاوجة العقيدتين، فالاستخدام المفرط للقوة العسكرية مباشرة كقوة صلبة لتغيير الأنظمة السياسية كما حصل في العراق وأفغانستان، أو من خلال استخدام وسائل القوة الناعمة كالخنق الاقتصادي والحصار السياسي والدبلوماسي والتهديد بالقوة العسكرية بغرض إضعاف أواصر التماسك الداخلي وإثارة وتحفيز عناصر التمترس الطائفي والتمرد العنصري لاستخدامها لاحقا في تفجير هذه الأنظمة السياسية من الداخل.

يعتقد منظرو هاتين العقيدتين، وخاصة نظرية الفوضى الخلاقة، أن مجتمعات الشرق الأوسط ذات أنظمة سياسية حديثة نسبيا، وقد أخفقت معظمها في بناء الدولة ذات الهوية الوطنية "3" ولا تزال الأولوية لدى الكثير من أبنائها يميل باتجاه ثقافاتهم الفرعية العشائرية والدينية والإثنية وليس لدولتهم، فهناك فشل متراكم تام على مستوى صهر ثقافة وطنية لجميع الأفراد داخل بوتقة الدولة.

وبالتالي فإن أي عملية إزالة للبناء السياسي الفوقي يرافقه حل صمامات الضبط الاجتماعي كالجيش والشرطة والأمن أو حتى القيام فقط بإضعاف دور الدولة أو النظام السياسي والضغط عليه فإن ذلك كفيل بانكفاء هذه المجتمعات إلى عناصرها الأولية- ما قبل الدولة- ولن تتمكن من التصرف بشكل جمعي وسرعان ما تتحول إلى كيانات صغيرة وضعيفة متناحرة فيما بينها على السلطة والثروة تسهل السيطرة عليها والتحكم بها.

لقد شكل غزو العراق واحتلاله حقل التجربة النموذجي والمثالي لتطبيق هاتين النظريتين، وتركتا جراحا عميقة وغائرة في جسد المجتمع العراقي وآثارا مدمرة على حاضره ومستقبله، ومن المتوقع استخدام هاتين النظريتين وتعميمهما ضد دول أخرى في المدى القريب كأحد آليات الصراع بين الشعوب في القرن الحالي من خلال ما تتيحه ثورة الاتصالات والمعلومات من فرص ذهبية للقوى المتفوقة تكنولوجيا لعبور الحدود والتأثير المباشر في تغذية التوترات وإثارة النعرات دون الحاجة الفعلية للتواجد على أراضي الخصم وبث الجواسيس كما كانت عليه الحال في العقود السابقة.

تفسر عقيدة الصدمة في العراق حجم الدم الذي أريق والأرواح التي أزهقت، حيث تجاوز عدد القتلى المليون، وكذلك عمق وكثافة ومستوى التدمير والنهب الذي فاق كل التصورات، كما أن استمرار موجات العنف الهمجية التي تضرب السكان المدنيين منذ ثماني سنوات سواء كانت على يد قوات ومرتزقة الاحتلال مباشرة أو بإشرافهم على يد ميليشيات محلية يتم تجنيدها وتدريبها ليس سوى تطبيق منهجي ومدروس لنظرية الصدمة التي تهدف إلى عدم إعطاء أي فرصة للمواطن العراقي لالتقاط أنفاسه أو رفع رأسه خارج إطار دوامة الكارثة المستمرة، وتحول دون استعادته للمبادأة؛ فالإمعان بالقتل والإبادة والاستباحة والتجويع وإشاعة المخدرات تتيح للاحتلال القدرة على شل إرادته عن التفكير السليم المتوازن ومحاصرته في حالة من الذهول النفسي يشغله ويبعده عن أي احتمال للتفكير بصورة جمعية حول ما يتم تمريره على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى العسكري.

"أفضل وقت للاستثمار في العراق هو قبل أن يجف الدم" هكذا عبر أحد مدراء مئات الشركات الأمريكية الخاصة المستثمرة التي دخلت العراق عقب احتلاله، ففي ظل حجم النار والقصف الهائل وهول التدمير والاستخدام المفرط للقوة العسكرية خلال الغزو بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا والتي لا تتناسب ومستوى قوة العراق التقليدية، والإمعان بعد ذلك بالقتل والانتهاكات إلى حد الإبادة واستباحة المقدسات والأساليب الفظيعة للتعذيب الجسدي والأخلاقي للمقاومين والوطنيين العراقيين، كما جرت في سجن أبو غريب واستمرت بعد ذلك بنفس المنهجية في سجون حكومات الاحتلال المتعاقبة لتصفير وإعدام ذاكرة الأسرى والسجناء.

في الحقيقة كانت هذه الأساليب تمارس في نفس الوقت ضد مجتمع بكامله خارج السجون بشكل مدروس وبصورة منهجية تنسجم مع قوانين وقواعد عقيدتي استثمار ذهول وشلل المجتمع لما بعد مرحلة "الصدمة" وإعادة البناء وفق مقاسات الاحتلال لما بعد مرحلة "الفوضى".

اقبـال غير متصل   الرد مع إقتباس