عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 28-08-2007, 03:07 PM   #1
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي جبران خليل جبران بين سطوره وظلاله.

[FRAME="11 70"]جبران خليل جبران

بين سطوره وظلاله

بقلم: ناهد أبو زيد


"من عمق هذه الأعماق ،

نناديك ، أيتها الحرية ، فاسمعينا !

من جوانب هذه الظلمة ،

نرفع أكفنا نحوك ، فانظرينا !

وعلى هذه الثلوج ،

نسجد أمامك ، فارحمينا !

...

من منبع النيل إلى مصب الفرات

يتصاعد نحوك عويل النفوس متموجا مع صراخ الهاوية ،

ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان

تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزع الموت !

ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء

ترتفع نحوك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة ،

فالتفتي ، أيتها الحرية ، وانظرينا !

...

في المدارس والمكاتب

تناجيك الشبيبة اليائسة ،

في الكنائس والجوامع

يستميلك الكتاب المتروك ،

وفي المجالس والمحاكم

تستغيث بك الشريعة المهملة

فأشفقي ، أيتها الحرية ، وخلصينا !



في شوارعنا الضيقة ،

يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها للصوص المغرب ،

ولا من ينصحه !

وفي حقولنا المجدبة

يحفر الفلاح الأرض بأظافره

ويزرعها حبات قلبه ويسقيها دموعه

ولا يستغل غير الأشواك ،

ولا من يعلمه !

...

فتكلمي ، أيتها الحرية ، وعلمينا !

...

لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلحوا الدرزي لمقاتلة العربي ،

وحمسوا الشيعي لمصارعة السني ،

ونشطوا الكردي لذبح البدوي ،

وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي ،

فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم ؟

وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة ؟

وإلام يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله ؟

...

إصغي أيتها الحرية ، واسمعينا ...

تكلمي بلسان فرد واحد منا ،

فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس ،

أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا ،

فمن سحابة واحدة ينبثق البرق ينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال ،

...

إسمعينا ، أيتها الحرية ،

إرحمينا يا ابنة أثينا ...

خلصينا يا رفيقة موسى ،

أسعفينا يا حبيبة محمد ،

علمينا يا عروسة يسوع ،

قوي قلوبنا لنحيا ،

أو شددي سواعد أعدائنا علينا

فنفنى وننقرض ونرتاح ."[1]




بهذه المناجاة لخص خليل الكافر، وهو الاسم الذي أعطاه جبران للمقطوعة التي منها اختيرت هذه المقتطفات، خليل الكافر الآتي من المشرق، (لخّص) سرائر النفس البشرية في بلاد الشرق ومعاناة الإنسان على يد الإنسان هناك ، وأمراض المجتمع الطالعة في جسده من منابع ذاته . وبعين ثاقبة نراه ، وقد أطل على الحياة ، مدبرها ومقبِلها، كاشفاً زوايا الواقع الذي دفع به إلى حيز الوجود.

فما أشبه الأمس باليوم ! ...

وكأني بذلك الأسمر الأغر يحمل إلى بلاد الشقراوات شعلة النبوة من الأرض التي لم تبخل قط بالأنبياء. فهو غاب عن المشرق بالجسد لا لينفصل عنه بل ليزداد به التصاقا،

وقد ترعرع في المغرب دون أن ينتمي إليه روحا. فإذا به يرتفع فوق محدودية الزمان والمكان إلى شمولية وجدانية غلفت كيانه لتعلن "مملكتي ليست من هذا العالم".

وها هو يميط اللثام مرة أمام ماري هاسكل ، خليلته وكاتمة أسراره ، عن أسباب قلقه الدائم وتوقه إلى الإنعتاق من الظرفية القاتلة فيقول :

"أن أكون في عالمين. فلو أني في بلاد سوريا ، لكان شِعري أمّن الاهتمام بلوحاتي ، ولو كنت شاعرا إنكليزيا لجلبت اهتمام الإنجليز بها . غير أني بين الاثنين - والانتظار ثقيل. أريد أن أكون حرا ..."[2]

من رحم ذاك الواقع وتلك المعاناة ولد جبران الكافر الذي أنجب فيما بعد جبران الصوفي الغارق في التأمل حتى الإنخطاف. من نار الألم الدفين أطلق جبران شمس الأمل ليشرق معها في نفوس المعذبين في الأرض. ومن أعماق القلق والشك طلع جبران الثائر فحمل المحبة سلاحا والإيمان درعا ومضى في فتح مبين. فمتى ولد الصوفي-الكافر وأنى بلغ المؤمن-الثائر؟

"إن يوم مولدي لا يعرفه أحد"[3] قال جبران يوما. وهو في ذلك محق. فكيف يجده من كان يبحث فقط عن مكان ولادة بشرية في بيت متواضع على كتف وادي القديسين؟ بل كيف يأمل أن يراه من كان ينظر فقط إلى واهن لم يتحمل من السنين سوى ثمان وأربعين؟

يرى بعض دارسي جبران أن حياته تنقسم فترات زمنية منذ ولادته حتى هجرته مع والدته وأختيه للالتحاق بشقيقه من أمه في بوسطن ، ومنها حتى عودته لتعلم العربية في مدرسة الحكمة بلبنان. ثم منذ تلك الفترة حتى عودته مجددا إلى بوسطن ومن ثم مغادرتها إلى باريس لدراسة فنونها.

ثم يتناول آخرون حياة جبران من زاوية إنتاجه الأدبي والفني ليقسموها فترتين رئيسيتين : الأولى منذ ظهور كتابه الأول باللغة العربية عام 1905 ، وقد اصطبغت بالمرارة والخيبة من تفشي أمراض المجتمع ، والثانية مباشرة بعد ظهور كتابه الإنكليزي الأول عام 1918 ، والتي أطلقت رسالته الكونية على دروب المتصوفين حيث جعل جبران المحبة طريقا لكل مقصد . وهنا يطيب لي أن أتأمل وإياكم أبرز المحطات التي ساهمت في تشكيل الفكر الجبراني ووضعت إطار أسلوبه الذي ظهرت معالمه في أدبه وفنه ، وهي كما سطرها هو كلمات وألوانا وظلالا.

حين كان جبران في سن الثالثة عشرة ، رتبت له إحدى العاملات الاجتماعيات موعدا مع أحد أصحاب دور النشر عله يجد له عملا في مجال الرسم وتزيين أغلفة الكتب . وحين شاهد رب العمل بشيء من التردد ما كان قد اصطحبه معه الصبي الخجول من رسوم رصاصية وافق على شرائها فورا ووعد بشراء كل ما قد يجلبه إليه بعد ذلك . وفي ربيع العام 1912 اصطحبت إملي ميشيل - وهي إحدى المعجبات الفرنسيات - جبران إلى واحدة من حفلات آلكزندر ومار جوري مورتن وكانا في طليعة مقدمي الرعاية في حينها للمجددين في الفن الأميركي المعاصر . وفي طليعة الفنانين الذين حظوا برعاية آل "مورتن" كان آرثر دايفيز الذي أسس وترأس فيما بعد رابطة الرسامين والنحاتة الأميركيين . وحين اصطحب ألكزندر مورتن الرسام أرثر دايفيز جبران لم ينفك هذا الأخير من ترداد عبارة "رائع - رائع" ثم مال إلى السيد مورتن قائلا "سوف يدهش هذا الرجل العالم كما أدهشني".[4]

وكانت ولادة الأسطورة ...

في رسم الذات الصغرى والذات الكبرى يبين جبران الكائن الصغير ممسكا بيد الكائن الكبير يسنده ويحنو عليه . وكأني به يقول إن الإنسان وليد الطفل وليس العكس كما يسود الاعتقاد . وهذا ما أجمع عليه علماء النفس الذين يؤكدون أن فرادة الإنسان تدين بأصلها لما قد يكون المرء قد تربى عليه وخبره منذ الصغر . فلنسمع إلى ما يقوله جبران ذاته عن طفولته.

"حين كنت ولدا لم أكن أعرف أني كنت تعيساً. جل ما عرفته أني كنت أصبو لأن أنفرد بذاتي أصنع أشياء . ولم يكن بوسع أحد أن يحملني على اللعب .

في سن السادسة أو السابعة كانت لي غرفة بكاملها , مملوءةً أشياء كنت أجمعها ... كانت لدي أقلام رصاص كثيرة - صغيرة كانت ولم أكن لأتخلى عنها ... كنت أرسم بسرعة وخفة وأغطي عشرات الصفحات والأوراق . وعندما أفرغ من الأوراق كنت أرسم على جدران الغرفة ...

كنت أكثر انشغالا" من أي صبي آخر ... كانت سعادتي تكمن في صنع الأشياء . فلم تكن النتيجة أبداً مبتغاي ... وهكذا كنت دائما منذ سن التاسعة أو العاشرة - إلا أني لم أكن قط سعيداً ...

كنت دائماً تعيساً لأن رؤياي كانت أبعد بكثير من أي شيء أستطيع عمله".[5]



هكذا استبدل جبران اليافع أحلام الصبى ولعب الأطفال بعمل دؤوب لصنع أشياء وأشياء كان أحبها إلى قلبه رسم آلهة عالجها هو ببراعة خاصة ، وطائرات الورق والقماش التي أراد بها الهروب إلى عالم من تصميمه هو وله وحده القدرة على التحكم به . فقد تساوى عنده الحب بالعمل ، فكانت هاهنا جذور "الأرواح المتمردة" (1908)، "الأجنحة المتكسرة" (1912)، "العواصف" (1920) و"آلهة الأرض" (1931).

وأما بداية التعاسة التي غلفت حياة الصبي المبدع فكانت صدمته بسجن والده حين كان جبران في سن الثامنة ، وذلك بسبب وشاية من أحد حاسديه. فصودرت أملاكه ومنها البيت - القصر الذي عاشت فيه العائلة فانزوت بعد ذلك في بيت متواضع كان يملكه عيد جبران ، أخو خليل الوالد . وحين خرج خليل من السجن بعد أن بلغ جبران الحادية عشرة كان الفقر جاثما" على صدر الأسرة التي لم تجد بدا" من الهجرة إلى العالم الجديد.

في صورة للعائلة أخذت قبيل سفرها ، والتي تظهرهم مجتمعين للمرة الأخيرة ، وتبدو ملامح الألم والأمل في خليط أنتجته أحلام هشة بغد أفضل مدفوعة بواقع بليد ينهش أيامهم. ورمزاً للأمل يظهر جبران وكأني به ينفض ضعفه وحذره بوقفة راسخة حاملاً في يساره قلماً وفي يمينه لفافة من الورق بانتظار أن تجمع بين الاثنين عبقرية أذهلت حيثما بلغت. ولم يغب عن ناظريه هذا الأمل في قلب الموازين وتحقيق التكافؤ الذي يستحق . فقد اسر مرة لماري هاسكل إبان عودتهما معاً من زيارة لآرثر دايفيز ، وكان جبران حينها في مستهل كفاحه الفني : " ... سوف يأتي يوم أستطيع فيه تحقيق شيء ما لأمريكا . وسوف أضرب بشدة . لا أستطيع اليوم ... لأن يدي موثوقتان على جانبي. سوف تتحرران يوماً. عندها سوف أضرب."[6]

هذه الثورة العارمة حملها جبران معه إلى نيويورك "المدينة الغريبة الأطوار" كما وصفها يوماً ، ومع الثورة حمل عبء التوفيق بين نزعة التأمرك التي تحيط به وميل إلى المشرقية التي أخذته روحانيتها فلم يشأ تخليتها . ومن العلامات الفارقة في هذا السياق لقاؤه بالكاتب الروائي الفرنسي "بيار لوتي" إبان زيارة الأخير إلى نيويورك حين قال له : " لقد أصبحت أكثر قساوةً واقل مشرقيةً - وهذا سيء ، سيء جداً ." ويرد جبران على ذلك بأنه أحب بلاده حباً جماً لدرجة لم يشأ معها أن يكون مثل أبنائها الباقين . فكان آخر ما قاله له "لوتي" " دعني أقول لك يا جبران نيابة عن سوريا بأنه يجب عليك أن تنقذ روحك بالعودة إلى المشرق . فليست أميركا بمكان لك!"[7]

هذا التجاذب المرير بين عالمين متباعدين إلى حدود التناقض ، دأبت ماري هاسكل بدورها على ردم الهوة بينهما لتثمر جهودها بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ حين بدأ جبران بوضع المؤلف الأول له باللغة الإنجليزية . وكان "المجنون" - كتابه الجديد - مرآةً لذلك الواقع ومشروع علاج.

روى جبران مرةً "إن أول حدث عظيم أذكره يوم كنت في الثالثة من العمر - وكانت عاصفة - فمزقت ثيابي وركضت خارجا" إليها - ودأبت على ذلك مع كل عاصفة."[8]

وفي مستهل كتابه "المجنون" كتب جبران "هذه قصتي إلى من يود أن يعرف كيف صرت مجنوناً : في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سرقت ... فركضت سافر الوجه في الشوارع المزدحمة صارخاً بالناس : "اللصوص ! اللصوص! اللصوص الملاعين!" فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين.

وعندما بلغت ساحة المدينة إذا بفتىً قد انتصب على أحد السطوح وصرخ قائلاً : " إن هذا الرجل مجنون أيها الناس!" وما رفعت نظري لأراه حتى قبلت الشمس وجهي العاري فالتهبت نفسي بمحبة الشمس ولم أعد بحاجة إلى براقعي . وكأنما أنا في غيبوبة صرخت قائلً : "مباركون مباركون أولئك اللصوص الذين سرقوا براقعي!"[9]

بين الطفولة والشباب توق دائم إلى التحرر ومواجهة متواصلة مع العواصف . وحدها شمس الحقيقة تحرر ،ووحده التعري من أثمال الأمس طريق إلى بلوغ النضج المطلوب .

هكذا إذاً نفهم العري في لوحات جبران . إنه أقرب المسافات بين الإنسان والحقيقة. وهكذا كان الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل العطاء الأدبي والفكري لديه . إنها مرحلة التفكير والتعبير عن الذات معا" بحلة جديدة هي اللغة الإنجليزية.

حين أزف جبران لماري عزمه على بدء الكتابة بالإنجليزية أرسل إليها بعض أسطر يقول فيها "من مفكرات مجنون - ليلة البارحة ابتكرت لذة جديدة . وعندها هممت بتجربتها للمرة الأولى ، تسارع نحو داري ملاك وشيطان . وعند الباب تقابلا وتصارعا فوق لذتي المبتكرة حديثاً . كان أحدهما يصرخ "هذه خطيئة" والثاني يجيب "إنها الفضيلة". والآن يا ماري لن يكون عليك ترجمة هذه إلى الإنجليزية".[10]

[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس