عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 05-12-2006, 06:55 PM   #60
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

( 23 )

لو راقب أحدنا نفسه أثناء عمليات الاقتراع (التصويت)، لأدهشه سلوك غريب، قد يتشابه عند كل الناس، فهو إن كان مرشحا في تلك الانتخابات التي يجري لها التصويت فإنه سيضع اسمه أول اسم، حتى وإن كان له حلفاء في نفس القائمة والذين سيدرجهم بعد كتابة اسمه، وإن لم يكن هو المرشح، وكان له قريب أو صديق فإنه سيضع اسمه في رأس القائمة، ثم يكتب أسماء المرشحين الذين ألزم نفسه بهم أدبيا !

يتساءل البعض: لماذا هذا السلوك العفوي؟ هل يخشى صاحب هذا السلوك أن يأتي زلزالا يمنعه من كتابة اسمه بالأول، أو أن أوامر مفاجئة تأتي من قوة ملزمة بالتوقف عن الكتابة .. ولو أخضعت هذه الأسئلة للمنطق، لما وجد لها مبرر إطلاقا، فما فائدة كتابة اسم المرشح إن أتى زلزال أو قمعت العملية الانتخابية ؟

إن تلك المسألة تتعلق باعتبار الفرد ولحظات حياته كمحور لعملية التاريخ، ففلان أكبر مني بخمسة سنوات باعتباري نقطة للمقارنة واشتريت ذلك القميص عندما ذهبت للمدينة الفلانية، باعتبار حركتي هي نقطة مقارنة الأحداث ..

عند الجماعات المغلقة أو شبه المغلقة يكون التاريخ، يرتبط بحدث يتذكره الجميع، فعندما يذكر تاريخ زواج أحد أفراد مجموعة، سواء كانت عشيرة أو قرية، فإنهم يختارون حدثا حادا للمقارنة معه، فيقولون تزوج بعد أن قتل فلان، خصوصا إن كان مقتل فلان قد طبع بصمة قوية في ذاكرة المجموعة ..

في قديم الزمان كان عرب الجنوب (اليمن) يؤرخون بأحداث وطنية معينة، كأن يقولوا بعد هدم سد مأرب بمائة وخمسين عاما، وأصبح عرب مكة ومن يحيط بها يؤرخون بعام الفيل .. وهكذا حتى استقر التأريخ الهجري، واستعمل معه التاريخ الميلادي ..

بعض الموظفين في أيامنا يضعون على مكاتبهم مفكرة مكتبية يكتبون عليها ملاحظات ثم يقلبونها لليوم الذي يلي اليوم الذي كتبوا عليها الملاحظات، ولا أدري على وجه التحديد كيف سيستفيدون من الملاحظات التي كتبوها على الأوراق السابقة .. لكنها أصبحت تقليد عند معظم الموظفين ..

كان الحاج فالح يواظب على كتابة معلومات معينة على (مفكرة جيب)، وقد استمر على تلك العادة لمدة سبع وسبعين عاما متواصلة، وكانت آخر عشرين مفكرة جيب كتبت بخط مهزوز نتيجة الرجفة التي أصابته بعد تعرضه لجلطة بعمر الثمانين ..

وكان يتمتع بتلك الميزة، عندما يأتي إليه طرفان قد تراهنا على مسألة ما، متى كان يوم ولادة فلان أو زفافه ومتى توفي فلان، فكان يبتسم وأحيانا يضحك حتى تنزل بعض الدمعات من عينيه لتضيع بين شعرات لحيته البيضاء، ومن يدري لما كان يضحك، هل لأنه يريد التباهي بخصلته النادرة، أم لتندره بتعذيب السائلين لبعض الوقت، وهو يسأل هذا: وأنت ماذا تقول ؟ ثم يعود للطرف الآخر ليسأله عن رأيه، وبعد جهد يأمر أحد أبناءه أن يأتي بسلم ويصعد الى (طاقة) في أعلى جدار (المضافة) ليحضر له عشرة مفكرات، حصر فيها وقت الحادثة التي سئل عنها .. ويأخذ بالقراءة بصوت مسموع، أمام مجموعة تستمع إليه، ولا يذهب الى ما سئل عنه فورا، بل يسمعهم تواريخ وفيات لأشخاص مهمين، أو لتواريخ معينة.. فتسمع من حوله تنهدات وعبارات ( يا الله) أو (الله يرحمه).

كان الحاج فالح يهتم بتاريخ الوفاة وعقد القران والأمانات التي تودع عند معارفه، وأحوال الطقس، وأسعار اللحم والتبن والقمح وبقية الحبوب، وتتبع أخبار المسافرين، حيث سافر أخي محمد الى حمص ويبقى لا يزال أخي محمد بحمص، ذهبت لتفقد الزرع الشرقي، كان طول الزرع أربعة أصابع، ثم يتابع في اليوم الذي يليه (رهام خفيف) أي مطر قليل .. وينتقل لليوم الذي يليه، لا زال أخي محمد بحمص، طقس بارد جدا( حورة .. أي صقيع) .. وينتقل الى اليوم الذي يليه سعر كيلو لحم الخروف عشرين قرشا ولحم الجمل 18 قرشا، سعر حمل تبن العدس 60 قرشا ( الحمل حوالي 150كغم) .. حضر أخي محمد من حمص وقد اشترى بغلا ..

ثم ينتقل، ليوم آخر ( صلينا على جنازة محمود الأشقر) .. ويتابع .. رفس البغل الذي أحضره أخي محمد، رفس ابراهيم وشج رأسه .. وبعدها بعدة أيام تجده يكتب: ذهب أخي محمد الى فلسطين لبيع البغل .. وتتكرر الأمور اليومية، عن الطقس والزرع والوفيات .. مع تأكيد كل يوم أن (أخي محمد لا يزال بفلسطين) .. حتى يصل الى عاد أخي من فلسطين ومعه البغل ..

كان الحاج فالح يتعامل مع المفكرة كما يتعامل ناس اليوم مع الشيكات، فلا شطب ولا مسح ولا غيره .. وقد اطلعت على قضية طريفة حيث كان قد سجل في مفكرته ( توفي اليوم سعيد الحامد) .. وقد سجَل الحاج فالح وفاته بناء على خبر سمعه من آخرين .. ولكن سعيد الحامد عندما حفروا له قبره، وغسلوه ونقلوه الى المقبرة استفاق فجأة وعاد الى الحياة .. والغريب أن الحاج فالح الذي كان يكره الذهاب للمآتم، لم يعلم بحالة استفاقة سعيد الحامد، وقد صدف ووجد الحاج فالح ذلك الميت الذي بُعِثَ مبكرا عند محل لبيع اللحم (قصاب) .. فسأله الحاج فالح: الست سعيد الحامد؟ فأجاب سعيد (بدلال) : آه والله يا حاج. فسأله الحاج فالح : ألم تمت قبل شهور؟ فأجابه : بلى والله .. وتوقع سعيد أن يأخذه الحاج فالح بالأحضان .. ولكن الحاج فالح بادره : (تضرب في شكلك) أهي لعبة أولاد صغار؟ والله لن أشطبك ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس