عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-12-2008, 02:54 AM   #27
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

د- المزج بين القديم والحديث:

من خلال معاينتنا لطريقة استعمال الألفاظ عند السياب تبين لنا هذا المزج:

أ. في الجملة الواحدة ...فبينما تكون لفظة فصحى فإننا نراها تعايش لفظة عامية كقوله:

"حيـًا زخّ" (637) تعني أن المطر نزل بغزارة، "فعنا القلب وانقهر" (638)، "ألفيتني احسب ما ظل في جيبي من النقد" (639)، "بردانة أنا والسماء تنوء بالسحب" (640)، "كالغابة تربض بردانة" (641)، "لا أرد من الزبائن أجمعين إلا العفاة المفلسين" (642).

وقد تكون الكلمة الأولى فصحى ، والثانية جديدة على المعاجم- غير واردة في المعاجم، كقوله: "ونايي أجتبي الأنغام" (643)، "يوصد الماخور" (644).

"زورق العرس المحلى

بعيون آرام ودفلى

ودرابك ارتعدت حناجرها" (645).

إذن فشاعرنا يمزج في القصيدة الواحدة، بل في الجملة الواحدة الكثير من الفصحى- أي القديم- بالتعابير الحديثة سواء بصيغتها أو بدلالتها، وسأسوق مثلاً آخر على هذه الظاهرة:

"فتسأل عن بابا أما طابا" (646).

وصيغة الاستفهام "أما" هي من فصيح الكلام في القرآن وفي الشعر، وكذلك استعمال ألف الإطلاق بعد "طاب"، لكن "بابا" و "طاب" كلمتان تردان على لسان الأطفال، ولهما دلالة جديدة.

وفي القصيدة الواحدة نلاحظ تعبير عامية في مجموعها "مدى ما ترى العين" (647)، "العيد من قال انتهى عيدنا" (648)، "بالعيون سلم علي إذا مررت" (649)، "الأقة- صاح القصاب من هذه اللحم بفلسين" (650)، "يا حاملات الجرار رحن واسألنها" (651)، وغيرها كثير.

- وهناك تعابير فصيحة يبدو وكأنها مترجمة عن العامية كقوله: "ماذا علينا أن عبد اللطيف يدري" (652)، فاستعمال "ماذا علينا" كأنه من العامية (إيش علينا)، وفي قوله: "وكل ضاحك فمن فؤاده" (653)، فكأنه يريد أن يقول -من كل قلبه-، وقوله "منذ صار" (654)ترجمة لقولنا من يوم ما صار.

- ومن استعمالاته التي تقع بتأثير لغة الحديث أو الفصحى المعاصرة:

* حتى- فهو يقول: "والظلام حتى الظلام هناك أجمل" (655)، "حتى كأن الأرض من ذهب" (656).

* إلا- ففي تكرارها تأثير من العامية: "ما فيه إلا النخيل وإلا العصافير" (657).

وعندما يقول الشاعر: "الجناح الحديد" (658)، "عجله الذهب" (659)، فهو يعني الحديدي والذهبي ومثل هين الاستعمالين يبرز في اللهجة المصرية الدارجة على وجه التخصيص.

ب. وقد يستعمل لغة شعبية في جملة القول (660)كقوله: "ترددها المقاهي (ذلك الدلال جاء يريد أتعابه)" (661)، فكلمة "ذلك" هي التي أكدت صيغة الفصحى.

- "والضيفة تضحك وهي تقول:

خطيب سعاد جافاها وانطوت الخطبة

الكلب تنكر للكلبة" (662).

"وتوسلته فدى لعينك خلني بيدي أراها" (663).

ج. وقد يكون في هذا المزج إدخال الأغنية الشعبية:

"وصدى يوشوش يا سليمة نامت عيون الناس آه من لقلبي كي ينـيمه" (664)،

وقد يكون التضمين واضحًا من الغناء الشعبي العراقي:

"يا مطرًا يا جلبي عبّر بنات الجلبي"
يا مطرًا يا شاشا، عبر بنات الباشا، يا مطرًا من ذهب (665).

وهذه الأغنية من أغاني أهالي البصرة كما يقول مطاع صفدي، ويقول الشاعر ضمن قصيدة عمودية:

"خورس شيخ اسم الله ترللا قد شاب ترل ترل ترار وما هلا، ترللا العيد ترللا، ترللا عرس حمادي، زغردن ترل ترللا، الثوب من الريز والنقش صناعة بغداد ترللا" (666).

ويشرح الشاعر في حاشية الصفحة- الخورس: أغنيتين شعبيتين عراقيتين واسم الله: نبات كالحلفاء تؤكل أزهاره وهي في براعمها وتتفتح عن سنابل تشبه الرؤوس التي شابت.

ويبدو لنا أن استعمال الأغنية الشعبية في الشعر الحديث ظاهرة جديدة من أعظم ميزاتها المحلية والصدق.



"الخاتمة"

تناولنا في هذا البحث دراسة بناء الجملة وطبيعة اللفظة كوحدة فيها، وقد لمسنا الأصداء القديمة في مبنى الجملة، والظواهر الأخرى البارزة سواء في الجملة أو في طبيعة اللفظة والأصوات الجديدة أو الخروج عن المألوف اللغوي في الجملة واللفظة.

وتناولنا في نهاية كل فصل، وغالبًا في نهاية كل باب ملخصًا مجملاً أو استخلاصًا وصلنا إليه من خلال البحث، وقد تبين لنا في هذه الدراسة أن هناك ظواهر بارزة أهمها:

1- تبرز عنده الأصداء القرآنية في الأسلوب والألفاظ والمضمون.

2- أصداء الشعر القديم: في الأسلوب والتراكيب اللغوية والتضمينات المباشرة وغير المباشرة.

3- الجمل الإنشائية: كالاستفهام والنداء والتمني والتأوه، وتكثر أدواتها بشكل مفاجئ ومعبر عن ألم لدى الشاعر .

4- جملة التشبيه حتى تكاد لا تخلو قصيدة منها.

5- الجمل الاعتراضية، وكأنها جزء هام من طبيعة شعره.

6- جملة القول.

7- ظاهرة التكرار في الحرف والكلمة والجملة.

8- النعوت ويستعملها أحيانًا استعمالات جديدة.

9- حذف حرف العطف، وكذلك استعمال واو العطف قبل المعطوف الأخير.

10- عدم الوضوح في بعض الجمل بسبب تأخير الفاعل أو عدم تبيّنة أو غموض اللفظ والاكتفاء.

11- استعمال نون النسوة لجمع غير العاقل، واستعمال "ما" الزائدة بعد كلمات لم تعهدها، واستعمال ضمير الشأن، وضمير الفصل، والفعل المضعف، والكلمة المشددة.

12- الألفاظ عنده منها ما هو معجمي ، ومنها ما هو جديد على المعاجم شأنه شأن الشعراء الجدد.

وهذا يجعلنا نخلص إلى القول أن الشاعر يمزج بين القديم والحديث، فهو إلى جانب استفادته من القرآن يستفيد من الأغنية الشعبية ويضمنها، وإلى جانب الكلمة الصعبة القاموسية يستعمل الكلمة العامية.

وهذه النقاط البارزة وغيرها مما ألمحنا إليه في ثنايا الدراسة تشكل معًا أسلوب السياب الشاعر الحديث، الذي امتص البنى القديمة في اللغة وجعلها تتعايش والكلمات البسيطة المباشرة.

أود أن أشير إلى أننا لاحظنا- برغم أننا لم نفترض أولاً- علاقة أسلوبه بواقع حياته، فكثيرًا ما كانت أمثلة التكرار والاستفهام والنداء والتشديد على اللفظ وحتى الأصداء القرآنية شعرًا مشبعًا بالألم، ونحن نترك موضوع علاقة مرضه بأسلوبه لباحث آخر يجمع بين علم النفس واللغة والأدب وهو يستطيع البت نهائيًا في افتراضي الذي أدوّنه أدناه:

(كما كان في حياة السياب صراع العافية والمرض، وصراع بين المواقف الحزبية المختلفة، فإننا نلمس هذا الصراع متجليًا أيضًا في النسيج الشعري عنده).
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس