عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-11-2023, 07:16 AM   #1
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 5,992
إفتراضي نظرات فى حكاية اليهودي التائه

نظرات فى حكاية اليهودي التائه
مؤلفة الحكاية منال عبد الحميد وهى تدور حول يهودى لعن بالبقاء وهو الخلود فى الدنيا وأسمته منال كارتا فيلوس كما هو فى المصادر التاريخية الكاذبة عن صلب وقتل المسيح(ص) والذى نفاه الله بقوله :
" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"

يقال أن ذلك اليهودى فى الروايات الكاذبة كان حارسا للمحكمة وفى رواية أخرى إسكافيا يصلح الأحذية ويصنعها وأن سبب لعنته من المسيح(ص) وهى أكذوبة أنه قال له وهو يساق للصلب المزعوم :
أسرع اسرع لا تتلكأ أو أسرع اسرع لا تتمهل
فقال له :
أما أنا فسأذهب وأما أنت فستبقى
إذا فهى لعنة الخلود المزعومة والتى يفندها أن لا أحد قبل الرسول الأخير(ص) من البشر أعطاه الله الخلود وفيها قال تعالى :
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد "

إذا الحكاية التى ألفتها منال بناء على الروايات الكاذبة لا وجود لها وهى تحكى عن ذلك اليهودى التائه الذى أوقف لعنته مسلم أعطاه ما عنده من ماء وطعام فأماته الله كما تقول منال فى الحكاية الطويلة وهى :
"سيبقى وحيدا يدور ويدور في أرجاء الأرض ..
توقف أمام الباب طالبا جرعة ماء ..
كان باب حانوت منخفض متسلخ الطلاء وبالداخل تتكدس مجموعات من البضائع القديمة المكسوة بالتراب .. كم من نفائس غطاها التراب هنا ولا أحد يعرف قيمتها!
ناوله صاحب الحانوت المسن الواهن قدحا من الماء الفاتر فشربه الطالب بنهم .. تقاطر الماء علي لحيته البيضاء الكثيفة المهولة فتبللت شعيراتها الخشنة وكادت تشهق حامدة الري الذي شبعت منه أخيرا .. كان الرجل عطشانا جدا فيما يبدو!
رمقه الساقي بشفقة وسأله محاذرا إبداء المنة عليه:
" هل أنت جائع أيها السيد؟! "
توقف الآخر عن الشرب وأنزل القدح فأستقر علي ذقنه المتجعدة المغطاة بالشعر .. نعم إنه جائع .. ومتى لم يكن كذلك!
" نعم .. إنني لكذلك! "
بحذر سأله الساقي المحسن متأدبا:
" هل أحضر لك طعاما .. قليلا من التمر وشيء من الخبز؟! "
ابتسم ذو اللحية الهائلة وهتف غامضا:
" لا .. طعامك لا يكفي لسد جوعي .. ولا كل ما في العالم من طعام وثمار! "
ناوله قدحه شاكرا ثم مضي مرتحلا في طريقه بهدوء .. لم يُري مثيل لهذا الرحالة الغامض من قبل! أما أنت فستبقى "
أرتعد حينما تذكر العبارة نفسها وهي تقال له .. إنه لم يعد يذكر من ذكريات عمره الماضية الكثيرة سوي تلك العبارة التي تؤلمه إلي أقصي حد!
رفع عيناه إلي السماء مستجديا حزينا وسأل بقلب نادم ممزق:
" أيها السيد .. إلي متى سأبقي؟! "
صمت الكون من حوله وخيم عليه سكوت رهيب .. آتته الإجابة الصامتة فأرعبت قلبه وجعلت أطرافه ترتعش:
" إلي الأبد يا " كارتافيلوس " .. إلي الأبد .. فأهنأ بخلودك التائه الملعون! "
عاد إلي القدس ثانية ولا يعرف ما الذي أعاده
لقد عاد إلي القدس ثانية ولا يعرف ما الذي أعاده .. كم يكره تلك المدينة العتيقة وكم يرتعب لذكراها وكم يئن حنينا إلي أيامها الزاهرة المضمخة بالعطر والمنشقة بالدم!
الدم الذكي الذي أريق هنا .. وأريق قبله هناك بالقرب من نفس الموضع حيث تلقي اللعنة التي لا فكاك له منها!
غادر الشارع المترب الصغير الذي من عليه صاحب حانوت فيه بشربة ماء، ودخل وسط أزقة متداخلة تشكل متاهة ممتازة لأي أحد سواه هو .. إنه يحفظ تلك الطرقات كما يحفظ خطوط يده فكم دبت أقدامه عليها وكم نحل وبر خلاياه وتبددت بقاياها فوق أديمها المحبب!
إنه يحب تراب القدس العزيز ويكرهه في نفس الوقت .. لا مناص من أن يكون كل شيء لديه متناقضا وهو الذي حُكم عليه بحكم إدانة يعتبره البعض من النعم ويسعون للحصول علي مثله!
الخلود!
حلم البشر التعساء الغافلين المغفلين .. أيظنون هذا شيئا جميلا!
قبحوا فكم يشتهي هو الموت ويتمناه .. الراحة الأبدية كم هي بعيدة عنه .. وكلما أوغل عمره وتجدد كلما زادت الشقة بينه وبينها!
هل يدعو متضرعا .. هل يندم ويستغفر ويطلب الصفح؟!
أو لم يفعل طوال قرون وقرون .. وهل أستجيب له؟!
" آه! "هتف منتزعا تأوهاته من أعماق قلبه .. في ركن ظليل تحت شجرة خضراء باسقة وجد نفسه وحيدا .. ألقي عصاه جانبا وجلس متفيئا الظل الظليل .. كم تلفحه الشمس اليوم وكم يضنيه حرها
تهرأ بدنه من ضربات الحر ولسعات البرد ونوائب الدهر
لقد تهرأ بدنه من ضربات الحر ولسعات البرد ونوائب الدهر فوقه، لكنه لم يمت رغم كل شيء .. جرب أن يهلك نفسه بالجوع والظمأ ثم أدرك لسوء حظه أنه لن يجني من الصوم الطويل سوي مكابدة آلام أمعائه الخاوية فوق آلام بدنه وروحه الأخرى
هل يحتمل كل هذا .. ولما يتحتم عليه أن يحتمل؟!
جلس حتى سرت الراحة في أعطافه وهدأ جيشان روحه الساخطة المستسلمة التي لا تعرف أي الطريقين أجدي وأكثر نفعا!
لقد فقد حتى قدرته علي تمييز الطرق من بعضها .. لم يعد يعرف أي طريق يسلك ببدنه ولا بروحه .. أيبقي تائها ضالا إلي الأبد!
لما قست هذه الدنيا عليه إلي هذا الحد؟!
أأثمه أكبر من إثم " بيلاطس " أو " قيافا .. أم أنه كان قيصر الزمان الحاكم وقتها؟!
لم يكن سوي حارس باب بسيط بائس أبله .. فيا الله لما تمعن في تعذيبي أنا هكذا؟!
أنا وأنا وحدي .. فلماذا؟!
تهيأ لاستكمال ترحاله .. لا شيء يستطيع أن يوقفه ولا شيء يستطيع أن يستبقيه ولا شيء يستطيع أن يفعل له أي شيء؟!
لقد تلاشي المنطق والعقل والزمان من أفقه ولم يبق سوي خط طويل شاحب بلا لون عليه أن يسير فوقه ويقطعه من أحد طرفيه إلي الآخر .. فقط ليعود إلي الطرف الأول من جديد!
كم هذا مؤلم وممض ومضجر .. إنه يدرك عذاب الكواكب التي تدور في أفلاكها الأبدية الآن ويتفهمه!
لذلك تحمي الشمس عاما بعد عام .. لم تسخن غيظا بل مللا من وضعها القديم ورغبة في حرق كل ما أسفلها حتى تحترق هي وتستريح!
كم أن الموت أمر شهي وجميل .. ولولاه لما كان لشيء طعم ولا لون علي الأرض! في عنفوان أيامه الماضية كان يعتقد أن المال هو النعمة الكبرى لكنه يدرك أنه كان أحمق متهورا عجولا في حكمه .. الموت هو النعمة الأكبر!
أن تنحل في حضن الأرض .. أن تتفتت، وتتناثر بقاياك، وتتلاشي .. ألا يبقي منك شيء بعد أن كنت أنت كل شيء!
ما أجمل هذا .. ما أجمله وما أبعده عن يديه الآن وفيما بعد ربما!
الآن فهم النقمة التي رذي بها وأدرك كم هي مروعة .. أما أنت فستبقي!
فأبق كما شاء لك الله .. حتى تعرف أي أحمق مغفل كنته!
مت حيا أو فلتحيى ميتا فلا فرق بين موتك وحياتك .. ستبقي عيناك مفتوحتان .. ستبقي واعيا مدركا لما يدور حولك .. ستبقي ببدن سليم وعقل واعي ولا نوم ولا موت ولا راحة ولا حتى قنوط سيشملك بجناحه .. كم كنت حسن الحظ أيها السامري صانع العجل!
لقد ذهبت في النهاية أما أنا فسأبقي!
رضا البطاوى غير متصل   الرد مع إقتباس