الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-06-2006, 03:49 PM   #28
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

سالم .. رئيس البلدية ..

إدارة البلديات و المدن ، تقليد قديم ، وجد في أيام (حمورابي) و أشارت شرائع حمورابي في الكثير من موادها الى صلاحيات مجلس المدينة ، وفي اليمن القديم ، كانت (المزاود ) وهي مجالس كانت تنتخب من أرباب الحرف ، وممثلي القبائل ، وممثلي دور العبادة ، وممثلي التجار الخ .. وكانوا من بينهم ينتخبون حاكم المدينة ( الدولة ) .. ومن يراجع تاريخ دول ( قتبان ، وكمنهو ) يجد المثال واضحا ..

وفيما بعد ظهرت مجالس المدن ، في أثينا و إسبارطة وروما .. حتى صار مجلس المدينة ، تناط به التشريعات التي تحفظ القيم التي يعتد بها عقلاء المدينة وتنظم التعاملات فيما بين السكان ..

في العصر الحديث ، لا تجيز القوانين اليابانية ، أن يتقدم أحد للترشيح في انتخابات البرلمان ، ما لم يكن قد نجح في انتخابات لا تقل عن خمسة ، في منظمات المجتمع المدني ، من جمعيات ونقابات ، على أن يكون أحد المرات عضوية مجلس المدينة .. كما يعتبر عمدة أي مدينة في الدول المتقدمة ، شخصية اعتبارية وتنفيذية في كثير من الأحيان ، لها أهميتها التي لا يتم تجاوزها بسهولة ، حتى من رأس الدولة ..

في بلادنا العربية ، تعتبر البلديات مجالا ( لتوكيد الذات الجماعية ) عند الناس الذين ينتخبون أعضاء المجالس البلدية ، وتعتبر مخزن للرأي العام ، يرفع برقيات التأييد للحكام ، من وجهة نظر الحكومات العربية ..

لغياب التنظيمات السياسية ، أو لضعف فعاليتها الجماهيرية في بلادنا ، فإن الانتخابات البلدية ، تتم وفق قواعد فهمها الجميع ، وهي خليط بين العشائرية والقدرة المالية و رضا أجهزة الأمن عن المرشحين ، وعدم خطورتهم وفق مساطر التقييم العام لنظرة تلك الأجهزة .. ونادرا ما يتم انتخاب أعضاء مجلس بلدي وفق برنامجه الانتخابي ، أو على ضوء قدرة المرشحين لخدمة المدينة .

كان سالم عسكري متقاعد ، له ابتسامة دائمة ، يضع (ثنية ذهبية ) .. تعطي لابتسامته بعدا يوحي بعدم عدوانيته ، وخطورته ، وتحسس من ينظر إليه بأنه مكانا للثقة و التفاني في الخدمة .. كان رياضيا سابقا ، لا يدخن ، قليل الكلام ، يروي نكتة كل أسبوعين أو ثلاثة ، ويضحك لنكتة غيره ، ويعيدها في كل المناسبات التي يحضر فيها من رواها ، فيحسسه بعلاقة حميمية ..

خاض الانتخابات مع تسعة من المرشحين ، تم انتقائهم بعناية شديدة ، وفق أصول لعبة الصوت التي تضمن لتلك ( الكتلة ) النجاح .. وفعلا ، نجحت الكتلة فيما عدا واحد ، لم يسعفه الحظ لعصبية أقاربه ، و وجود بعض الملاحظات على سلوكه ، ولوجود مرشح قوي في الكتلة المنافسة ، والذي حاز أعلى الأصوات ، حتى تلك التي كانت للتسعة أعضاء الكتلة الناجحة ، وكون الأعراف تعطي للكتلة التي نجح منها عدد أكبر أن تختار الرئيس من بين أعضائها ، تم اختيار (سالم) ليكون رئيسا للبلدية ، وقد كان ذلك متفقا عليه قبل المعركة الانتخابية ..

كان خليط الأعضاء فيه من الغرابة الشيء الذي لا يجعل منهم فريقا متجانسا ، فكان من بينهم شيخ في الثمانين من عمره ، وكان هناك محامي ومهندس و مدير سجن سابق ، و مدير تموين سابق من جماعة دينية ، ورئيس للجنة نقابية عمالية ، وموظف بلدية متقاعد ، ومدرس للغة الإنجليزية متقاعد ، وللأعراف المتبعة ، تم إضافة عضوين من الكتلة التي لم ينجح منها سوى عضو .. فأصبح المجلس البلدي اثنا عشر عضوا ..

أخذ الأعضاء التسعة الذين منهم الرئيس ، عهدا على أنفسهم ألا يعودوا لترشيح أنفسهم مرة أخرى ، وحلفوا على القرآن بذلك .. لكي يكون أداء عملهم لا يتأثر بمؤثرات لعبة الصوت ، ليرتبوا أدائهم وفق رغبتهم بالعودة !

كان التسعة يجتمعون كل ليلة في بيت أحدهم ، من أجل وضع خططا لجعل أدائهم يختلف نوعيا عن أداء من سبقهم ، فوضعوا خطة تنسق مع مديرية التربية ، لحل مشاكل التسرب من المدارس ، ووضعوا خطة تنسق مع البنوك والجامعات وغرفة التجارة لنشر ( التقنية ) في عمل أسبوعا (كرنفاليا) يتم فيه تكريم المبدعين من الحرفيين ، وربط ذلك بندوات ترفع من شأن المشاريع الصغيرة و المتوسطة ، يحاضر بها أساتذة الجامعات .. ووضعوا مجموعة من الخطط لنقل قلب المدينة الى الأطراف ، ووضع الأسواق المتخصصة الخ .

كان ثلاثة من الأعضاء ، يعرفون أهمية جدول أعمال (الجلسة ) .. فيكتب بدعوة الجلسة ، النقاط التي يتوجب بحثها في الاجتماع ، وكان هؤلاء الثلاثة لا يتكلم أحدهم إلا إذا سمح له الرئيس ، وإن غاب فإنهم يطلبوا الإذن من نائبه ، ومع ذلك لم تتوقف الفوضى في الكلام إلا بعد مرور تسعة أشهر .. فقد كان الكلام يأتي من الشيخ حول تأخر سيارة نقل النفايات ، أو يأتي من آخر حول تعطل مصابيح الإضاءة في الشارع الفلاني .. وكان كل ذلك يتم وهم يناقشون نقطة لترخيص بناء لمواطن !

كان سالم فرحا في النمط الجديد الذي كان يقوده ، وتهمس بأذنه جهات معينة أن هذا المجلس من خيرة المجالس البلدية في البلاد ..

لكن ذلك لم يطول كثيرا .. فطرح أحد الأعضاء ، فكرة منع شركة (الكوكاكولا) بدخول المدينة ، لأنها شركة صهيونية ، ولم تكن في حينها قد تمت أي اتفاقية صلح مع الصهاينة .. تكهرب الجو ، عندما طرحت تلك الفكرة ، لظن الكثير بخطورة مثل هذا الطرح .. فابتسم سالم لمن طرح تلك الفكرة قائلا : كيف حالك؟

لم يدم الوقت طويلا ، فقد دفعت شركة كوكاكولا ، ما يعادل عشرة دولارات عن كل متر مربع من ( القارمات ) الخاصة بها .. وحلت بعدها بأسبوعين كل البلديات .. وعاد سالم لترشيح نفسه ، في حين لم يرشح أحد من زملاءه نفسه للانتخابات البلدية ، والتي لم يقضوا فيها أكثر من واحد وعشرين شهرا ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس