الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-05-2006, 02:13 PM   #25
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عاطف الحداد

تكون فرص ثبات أحد الحرفيين بمهنته ، مرهونة بمجموعة من العوامل ، فمن القدرة على إتقان عمله بمهارة ، الى بشاشة خلقته وحسن معاملته لمن يتعامل معه ، الى الصدق بمواعيد إنجاز العمل ، الى الاكتفاء بهامش ربح كريم لكنه ليس فاحش ، الى حسن نوعية المواد الخام المستعملة في صنعته ، الى حسن سلوكه إذا دخل بيوت من يتعامل معه وغض بصره ، الى صبره على مضطر في تأخير ما عليه ، الى متابعة عمله إذا ما احتاجه العميل لصيانتها ، وفوق كل ذلك حسن السوق ..

كان عاطف الحداد ، لا يحتوي من كل تلك الشمائل الطيبة إلا القيل ، فإن طلبت منه أن يصنع لك نافذة مربعة طول ضلع مربعها مترا ، فلن تجد أي ضلع من الأضلاع الأربعة بطول متر ، بل سيكون كل ضلع زائدا جزء من سنتيمتر أو ناقصا جزء من سنتيمتر ، ومع ذلك لن يتساوى أي ضلعين بالمربع ..

كان طوله يقل عن المترين بنصف شبر ، وشعره منكوثا ، ويكاد كل كتف من كتفيه أن يكون على استقامة الآخر ، ليحتضنان رأسا مائلا للأمام ، و لحية باستمرار كأنها حلقت قبل خمسة أيام ، فلم يذكر أحد أن صادفه باليوم الأول للحلاقة ، أو أنه يحلقها بأداة حلق الرأس ، فتبدو كذلك ..

كان مطاردا من عشرات الزبائن يوميا ، فكان جيرانه يسمعون كل ربع ساعة على الأقل من يصرخ ( عاطف .. عاطف ) .. أو يسمعون على الرصيف ، جدالا بين عاطف و أحد الزبائن .. كان الزبون يذكر فهرس التواريخ التي وعده عاطف لإنجاز ما طلب منه ..

أما عاطف ، والذي يطلب من زبونه التحلي بالصبر ، فإنه كان يتكلم بنبرة حادة مبحوحة كمن يتكلم من خلف ورقة ( نايلون) .. كان يشرق كلمتين من كل جملة لا تقل عن خمس كلمات ، وكان وهو يتكلم أحيانا تظهر الطبقة العليا من لحم أسنانه ، كان لا ينظر الى من يتكلم معه ، بل كان ينظر الى (لا مكان ) .. ويطالب من أحد الصناع الذين تحت إمرته أن ينفذوا له طلبا .. كان يعلم أن لا أحد يستمع من العمال لديه ، ولكنها كانت أحد طرقه لتمزيق تركيز الزبون .. فقد كان له أسلوب أشبه بأسلوب المعلقين الرياضيين ، فما أن يكون يعلق على هجمة ، حتى تراه غاص في طقس بوليفيا أو عمل شوربة العدس من ماء المطر وجودتها عن التي تعمل من ماء الحنفية ..

وبعد أن يضمن عاطف أن زبونه استوى ، ولم يعد بنفس الحماس له ، يطالبه بدفعة أو دين قديم ، فإن لم يعطه الزبون شيئا ، يضمن عاطف أنه سيحل عنه ، ويبتعد ..

وأحيانا يتجمع لديه أكثر من زبون للصراخ عليه في وقت واحد ، وكان لديه فن في استثمار هذه الحالة أفضل من الزبون المنفرد ، فكان يستعطف أحدهما ليناصره على الآخر بصفقة معنوية خبيثة ، كأن يمتدح الزبون وكيف أنه قد قصر بحقه ، وان شاء الله بعد أن أنتهي من العمل لتنفيذ طلبه ، سأقوم بإنهاء عملك مباشرة ، فيتولى الزبون الموعود بتصبير الزبون الآخر الثائر ..

كانت معظم مشاكل الزبائن تتعلق بتوفيق عمل عاطف الحداد مع حرفي آخر ، مثلا ( القصير .. المبيض ) فهؤلاء لن يستطيعوا إنجاز عملهم قبل أن ينجز عاطف عمله .. أو أن الزبون يشتكي من عدم طبق الأبواب أو سقوط أحد ظرفتي شباك ، أو انفلات لحام بعض ( المفصلات ) .. أو تكتل نقاط اللحام بحجم حبة الحمص وتحريض الصباغ للزبون على تغيير ذلك ..

لقد ظهر عاطف في أوائل الثمانينات عندما كان هناك فورة عمل ضخمة ، حيث لا يدقق الزبون في مهارة الحرفي ، بل يريد فقط من يعمل له ، فظهر بناءون ضعيفي الأداء والمهارات وظهر سباكون و صباغون و حدادون ونجارون ، كلهم تحت مستوى نقطتين من عشرة ..

وكونهم قد لمسوا حسن السوق ، فقد تجمع أكثر الصناع الذين كانوا يخدمون عند معلمين مهرة ، واستقلوا في عملهم ، و أتوا بأردأ الشغيلة ليعملوا معهم ، فكان مع عاطف ، أحد الشغيلة ، يزيد وزنه عن 150 كغم ، كان إذا صعد الى سطح قاعة تحتاج سقف من الزينكو ، فإن قمة ( الجملون ) لن تعود تظهر بشموخ .. كان مغرما بعلب ( الطون ) فان طلبته لعمل ينجز بثلاث ساعات وتم انتدابه لانجاز هذا العمل ، فبعد أن ينتهي ، ستصدف بأثره لا يقل عن عشرة علب (طون ) فارغة ..

تكونت علاقة عاطف بزبائنه بشكل متداخل ، فهم رغم معرفتهم برداءة عمله ، إلا أنهم ارتبطوا به بشكل استراتيجي ، فإما كان يأخذ منهم مقدما ، أو أن لا أحد من الحدادين يقبل أن يقوم بعمله أو يعدله .. حتى بنا بيتا وكبر أولاده وذهب أحدهم لدراسة الطب في روسيا ، وافتتح أحد ميني ماركت ، فأفلس عاطف و سجن ، وقل عمل ورشته وإذا سأل أحدهم عنه ، أجيب بأنه ذهب لزيارة ابنه في روسيا ..

خرج عاطف من السجن ، أو عاد من روسيا ، فجاءه أحدهم وكان يطلق على عاطف اسم ( مسيلمة الحداد ) .. فطلب منه أن يعمل له بوابة ، فأنجزها له بنفس الموعد ، وكانت متقنة ..

عاد صاحب البوابة في اليوم الثاني وكان طريفا ، إذ وبخ عاطف بصوت عالي جدا حتى تجمع حوله عدة أشخاص .. وعاطف يلح بالسؤال على صاحب البوابة : لماذا تصرخ علي و لماذا أنت هائج ؟ .. فيلتفت صاحب البوابة ويسأل من حوله ممن تجمعوا : أنتم .. أنتم .. ماذا تعرفون عن عاطف الحداد ؟ فأجابوا معا ( كأنهم كورال ) : إنه كاذب ..

يضحك صاحب البوابة .. ويقول لقد صدق معي .. وأنجز شغله على أحسن وجه ، فيضحك عاطف و يضحك الجميع وينصرفون ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس