الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 13-05-2006, 09:12 PM   #24
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

بائع الموز :

كان يوقف عربته ذات الإطارات الثلاثة ، بجانب رصيف شارع عريض ، وكان الشارع لا يتجول به شرطة المرور كثيرا ، ولا تقف سيارات المشترين بكثرة ، و كان عرض الشارع الزائد يسمح له بالوقوف هناك ..

كانت عربته قد فقدت ألوانها ، فقد كان لون الأخشاب الرئيسية التي تحمل جسم العربة خضراء قاتمة ، أما اللون الذي يصبغ باقي الأخشاب فكان أخضرا فاتحا ، لكن طول عمر الصبغ قد قارب أن يوحد بين اللونين ..

كان يجلس على حجر الرصيف الذي يفصل بين الشارع والرصيف العريض الذي كان أصحاب المحال قد اقتطعوا منه مظلات ليعلنوا عن موجودات محلاتهم وكانت معظمها مطاعم تشوي اللحوم أو الشاورما .. فكانت رائحة المشاوي تغري المارين لأخذ القليل منها أو تناولها داخل المحلات .. وقد كانوا ينجحون في تلك الحيلة عندما تم افتتاحها .. لكن تلك الحيل لم تعد تستطيع قنص الزبائن ، فكان من الطبيعي إذا غبت عن الشارع شهرا أو أكثر أن تفاجئ بتحويل بعض تلك المطاعم الى مقهى للإنترنت ، أو محل لبيع الأدوات الكهربائية ..

كان منشغلا في حشو لفافة تبغ ، وكان يضع التبغ بها على مهل ، ولم يكن متحمسا كثيرا للصوت الذي سأله بكم كيلو الموز ؟ أجابه بكلمة واحدة دون أن يرفع رأسه عن عمله في حشو لفافة التبغ .. طلب منه من سأله أن يضع له كيلوين ونصف ريثما يعود من شراء بعض الحاجات ..

وقف عند بائع المشويات ليشتري بعض الساندويشات لأحد أولاده الذين لا يرغبون بصنف طعام العائلة بعض الأحيان .. فكان وراء الساتر المكون من حافظات زجاجية مبردة لعرض بعض أصناف المقبلات .. ثلاثة أشخاص شاب بعمر خمس وعشرين عاما يقف وراء مخروط الشاورما وصبي ابن خمسة عشر عاما ، يلبي طلبات من يصدر إليه بأوامر .. ورجل يرتدي بنطلون أبيض سميك وقميص بلون زهر السفرجل و يضع نظارتين سوداويين في جيب قميصه ويتنقل من مكان لمكان يشرف بنفسه على صناعة رغيف بالشاورما ..

أكمل الرجل صنع رغيفه ، فلفه بورقة رقيقة ، وجاوب رنة جرس جهاز الهاتف في جيبه ودار من وراء الساتر وتوقف عند الشارع قريبا من بائع الموز ومستندا الى سيارة مرسيدس سوداء حديثة الصنع .. كان عيون الصبي الصغير تتبع الرجل وتنظر تارة إليه وتارة الى السيارة .. في حين انشغل الشاب بتقطيع قطع اللحم المشوي .. وكان يبدو على اللحم أنه من بقايا ( شيش ) الأمس ، فلم يكن الشيش مكتملا ، بل كان بقطر لا يزيد عن عشرة سنتيمترات ، ويعتبر المساء هو ذروة البيع لمثل تلك السلع !

دفع ثمن ما اشتراه لصاحب المطعم ، وتوجه لبائع الموز سائلا إياه : هل أكملت وزن الموز الذي طلبته منك ؟

نهض الرجل بتثاقل ووضع لفافة التبغ التي أكمل صنعها ، ووضعها على حافة العربة ، فانفلت جزء منها ولم تكن مشتعلة من مدة .. وضع الأوزان في كفة ، واقتطع بواسطة سكين صدئة خصلة من الموز الذي كان يبدو أنه في مرحلة ما بعد النضج بقليل .. وكان لونه شاحبا مغبرا ، كأنه جمع مما سقط من سيارة في صحراء ..

كان وجه بائع الموز نحاسي صارم بلاستيكي ملامحه كملامح وجوه لاعبي البوكر ، وأما لون بياض عينيه فلم يكن أبيضا لدرجة أن تفرقه عن سواد القزحية .. كان يلبس ملابس ليست لمثل هذه الأيام بل تناسب أشهر الشتاء الباردة ، وكانت ألوان ملابسه قد تحالفت مع لون بشرته ، لتجعله أحد أبطال روايات أجاثا كريستي .. فسترة جلدية سوداء شاحبة ، أكبر من قياسه بنمرتين وبلوزة ثقيلة رمادية ، وقميص أزرق قاتم ، وملابس داخلية تطل بين تلك الملابس بلون أحمر متسخ .. لعله لبسها كلها في عز الشتاء ونسي أن يبدلها .

لم يكن مقتنعا باضطرار المشتري ، لشراء بضاعته الرديئة ، وهذا زاد من صرامته وقسوة نظراته ، فقد قطع هذا المشتري تفقده لحدود زمانه ، ولعله يكون أحد ضحايا الزمان ، فقد يكون زوجا لامرأة لم تنجب ، توفت منذ مدة فباع كل ممتلكاته ، واكتفى بهذه العربة ، وقد يكون يلبس تلك الملابس لأنه يقضي ليله قرب عربته ، فيمكن أن لا يكون له بيت ، أو أنه لم يتزوج أصلا .. وقد يكون أرملا ولكن أولاده لم يطيقوه فاختار هذه المهنة ليكتفي من مضايقاتهم !

لو أردت أن تقدر عمره ، لأعطيته خمس وستين عاما ، ولكن لو تفحصت شعر رأسه الكث لما وجدت شعرة بيضاء واحدة ، فكان شعره أقرب لشعر أهل كولومبيا .. ولا يوحي وضعه أنه يعرف صبغ الرأس .. ولو قلت أنه كان سجينا أفرج عنه قبل مدة من مؤبد .. لكان ظهر على رأسه بعض الشيب !

لم ينتبه لملاحظة المشتري أن يبقي ما فضل من قطع نقدية له .. أو لعله انتبه لكنه أعاد بقية قطع النقود ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس