عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-02-2010, 04:23 PM   #19
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

إنه الإنسان وليد تقلباته النفسية والانفعالية ، وقلما تجود عليه الدنيا ببعض حالات الصفاء التي يجد نفسه فيها راضيًا عن كل شيء محيط به ، راضيًا عن نفسه متحدًا معها ، لا تنغص عليه ولا ينغص عليها في هدنة تطول وتقصر حسب (لياقة) كل إنسان ، وتتبدى فلسفة هذا الصفاء الإنساني بين أحرف ترسم حالة ربما احتجنا إلى
من يستبطنها داخلنا ..
سلامٌ علىَّ
إذا ما أتيتُ إليكِ
حزيناً كليلة صيفٍ
أليفا كلحظةِ خوفٍ
نحيلاً، كومضةِ طيفٍ
خفيفاً
كريشةِ عصفورةٍ
فى الهواءِ

من أقل ما نجد أن يبدأ الشاعر السلام على نفسه ، لكنه في هذه القصيدة يبدأ بها للفت المخاطَب إلى هذا الانسجام مع الذات ، المقترن بشجن رقيق يفعل في القلوب فعل الندى ، وتبدو المحبوبة هي الملاذ الذي يأتي إليها المبدع أو من يتحدث المبدع على لسانه وتبدو هذه السمات التي يثبت بها تفرد هذه المحبوبة ، من خلال استيعابها ذلك الحزن . وتبدو فلسفة الشاعر في الأبيات عندما تكون ليلة الصيف معبرة عن حزنه ، إذ أنها ليلة تقصر ساعاتها مقارنة بالشتاء والربيع ،مما يعطي سبب الذهاب إليها هروبًا من هذا الفراق المحيط به.
إن سرًا من أسرار هذه الومضة يكمن في هذا التبطين لسبب هذه الحالة من الصفاء والتي يكون مردها إلى عجز الشاعر عن الحياة بذاته .
ويأتي التعبيران أليفًا ونحيلاً ليزيدا الحالة الإنسانية توقدًا وفيهما تحايل على معنى الطفولة . وهذا الحياء من ذكر كلمة الطفولة بشكل مباشر يعطي النص مذاقًا أكثر شجويةً وإنسانية والتعبير أليفًا كلحظة خوف ربما يقصد به أليفًا كحالي لحظة الخوف إذ لا يُتصور أن تكون اللحظة نفسها أليفة .إن الليلة تبدو رغم قصرها حزينة ومخيفة وبعد ذلك هي سريعة المرور ، إذ يغدو الشاعر نحيلاً كهذه الومضة من الطيف.
إن الشاعر يبدو في حالة من الصفاء والرضى عن الذات إذ يبدو كائنًا مضيئًا بهذا الحب الطائف في أعماقه وفلسفة الحزن التي تجعل كل جميل منهزمًا تجعل للتعبير سلام عليّ تأثيره الإيجابي على المعنى إذ أن الشاعر يرى نفسه في حالة استثنائية أهلاً للتعاطف ولا يجد إزاء هذه الحالة إلا البوح بهذه اللواعج إلى حبيبته التي تبدو حقيقية أو افتراضية لعجزه عن كتمان هذا الشجن في نفسه .
ورغم اعتيادية التعبير كريشة عصفورة في الهواء إلاأنه اعتمادًاعلى ما سبقه من تعبيرات يزيد الحالة تألقًا من خلال هذا التحويم في الهواء ليرقى إلى أعلى مراتب السمو الإنساني والوجداني لا سيما وأن المحسوسات كانت ذات حضور كبير في النص (حزين-صيف- أليف-خوف-هواء)ولعل تعبير عصفورة فيه إسقاط للمحبوبة التي يرى العاشق أنه جزءمنها لا يرجو عنها فكاكًا .
ورغم جمال التعبيرات والجو الذي عشناه من خلالها إلا أن شيئًا يتبدى في التعبير تطيرها نسمة من يديك والذي يحتوي على فعل له جانبه الحركي في التطيير ، لكن على صعيد التعبير أرى أن شاعرنا العزيز لم يوفق بالشكل الكافي في إحداث هذا التعبير عن الحالة ، فليس من المنطق أن تأتي النسائم لتطيّر الريشة ، بل إنه منطقي أن تسقط الريشة لأسفل والصورة فيها مخالفة للمنطقة ولو جعل الشاعر العزيز هذه الريشة تطير بالنسمة كالفقاقيع لكانت الصورة أكثر فانتازية وأجمل تأثيرًا للمتلقي .(رأيي الخاص)
ويأتي المقطع الثاني ليعبر عن المقابلة بين سلام عليّ ، سلام عليك .. تلك الحالة التي يشعر فيها من يتحدث المبدع على لسانه بالضعف لهذا النكران ، لتبدو هذه الأنثى حائطًا حائلاً دون ولوجه إلى بستان أحلامه المنتظر .
سلام عليك ِ
إذا أوصَدَتْ كلُّ أبوابكِ الفاتناتِ
مزاليجها الخضرَ،
دونى

تتسم هذه المقطوعة بالشاعرية المتدلهة إذ تأخذ التشبيهات طريقها منسابًا إلى قلب المتلقي ليفتح هو مزاليجه الخضر والسمر لهذه الأحرف العطِرة.. فالحبيبة تبدو جنة أو بستانًا وكانت الاستعارة فاعلة دورها وكذلك الصورة مساعدة على تحقيق الشعور بالمكونات اللونية لهذه الخلفية الجميلة الأبواب الفاتنات ولا أعلم هل الأصح أن يقال أبوابك الفاتنة أم لأن التعبير عن أنوثة دلالة الأبواب فاقتضى هذا استخدام تعبير الفاتنات ؟ ، وتأتي كلمة مزاليجها الخضر والمزاليج هي جمع مزلاج(الترباس) هذه المزاليج هي تعبير عن الصد والنفور من المحبوب لكن تبدو كلمة مزاليجها الخضر ذات دلالة راقية للغاية ،لأن هذه المزاليج رغم صدها المحبوب عن دخولها الباب إلا أنها خضراء .وهذا الصد والنفور يشعِران المبدع بالتحسر لأن هذه المزاليج خضرٌ وتلك الخضرة مكتسبة من بستان هذه المحبوبة ليكون حتى الصدود له طعم يختلف عن صدود أي محبوبة أخرى.كأننا بإزاء المعنى الذي عبر عنه الشاعر سيد يوسف في ديوانه أنا أيضًا لا أمنع فمي بقوله :"أيها الشجرة الطيبة لماذا ظلك ينفيني؟"أو قول بدر شاكر السياب رحمه الله: الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق.. بهذا المعنى يعبر المبدع العظيم عن خضرة هذا الصدود والنفور الغزالي الذي تبديه وكل شيء من الحبيبة يبدو أخضر ، حتى مزاليج الأبواب المغلقة!!
وعلى صعيد الكتابة أو تنسيق القصيدة فمجيء كلمة دوني وحيدة أتت عبقرية معبرة عن الوحدة حتى داخل أسطر\أشطر القصيدة ليكون للشجن عبقه.
وأنهتْ فصولاً
لعشقٍ وموسمَ،
سربِ يمامٍ
أ تى مثقلاً،
بالمواعيدِ
من كل غصنٍ
وأيكِ

الذي أراه –والله أعلم- أن هذه الصورة على جمالها في النهاية إلا أن عنصر الإضافة لم يكن في صالح النص ، لأن المعروف أن هذه المزاليج تعطي دلالة للنهاية وعلى صعيد التصور فكان أحسن –في رأيي الخاص – أن الأفضل أن تأتي النهاية ممثلة في صورة الباب المعبرعن الحيلولة دون الوصول للمحبوبة (وهو وصول معنوي بطبيعة الحال).
هذه الأبيات جاءت لتعطي الخلفية لونًا وشكلاً حالمًا لكن حتى هذا الشكل لا يتناسب مع الحالة الشجية الحزينة ، ولكنه أتى معبرًا عن حسن تمثل الشاعر للطبيعة وتوظيفها في الحالةالشعورية.
قصيدة جميلة شاعرنا العزيز بما لها وما عليها ، ولعل كلمة المنفلوطي رحمه الله تحضرني إذ قال عن أحد المبدعين : وما أظنه أصاب إلا من حيث ظن الخطأ ولا أخطأ إلا من حيث أراد الإصابة. لك مني أحر السلام وأخلص التهنئة وكل عام أنت بخير\بقصــــــــــــــائد.



__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس