عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-10-2011, 03:02 PM   #8
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(22)

أراد سيف أبو معجونة تبرئة ساحته، فقد كان ينظر بعيداً، ويُعِّدُ نفسه لأدوارٍ لم يُفصح عنها، لم يكن يتكلم كثيراً، وكان من يجلس معه من مسئوليه الحزبيين أو النقابيين (الطلابيين) يتهيأ لهم أنهم قد كسبوا تابعاً قد يحتاجونه في التصويت الداخلي أو بالإدلاء بشهادته لتزكية أحد يطمح في ترقيةٍ ما.

كان يختار ملابس رخيصة الثمن، لضيق حال أسرته، ولكنها كانت تبدو عليه جميلة، ويظهر بمظهر أنيقٍ بها، وكان في جلوسه الهادئ يبدو كمن يجلس أمام مصورٍ، فتبدو عيناه المكحلتان منذ الولادة، وشاربه الأسود الدقيق وابتسامته البلاستيكية، كأنهما تتويجاً لمشروع شخصيةٍ قيادية مستقبلية، كان هو يعتقد ذلك، وكان الكثير ممن يصاحبونه يتنبئون بذلك، حتى الفتيات في اتحاد الطلبة من بنات بلده، أو في الجامعة.

وكان علوان بالنسبة له، ليس مجرد طالب تم التوسط بقبوله في الجامعة، بل ابن الجيران الذين لهم الفضل في إنقاذ عائلته من العوز المستمر، ولهم من النفوذ المحلي ما لهم، ومن يدري فإنه قد يحتاج تقوية عُرى الارتباط بتلك العائلة، للسير في مستقبله الضبابي الذي كانت خيوط غُرزته الأولى قد تشكلت في مخيلة سيف.

لم يشأ سيف أن يخفق في أول امتحانٍ له في مسيرته السياسية، فهذا سيجعله مخالفاً للصور التي تنبئها لنفسه، أو أنه سيفقد بعض استثمارات علاقاته التي نمت بيسر مع من يحيط به من أصحاب الشأن.

كان على سيف أن يختار وقتاً ومكاناً يجمع فيه كل من قد يعترض على تزكية علوان، أو أن يتجاوز عن هفوة سيف بالتوسط بقبوله. ولم يُسقط من حسابه ما قد سيتحمله من نفقات لمثل ذلك اللقاء.

(23)

عندما دُعي سيف لتناول العشاء والسهرة مع رئيس اتحاد الطلبة (أكرم شلال عبد الفتاح)، وعلم من سيكون مدعواً فيها استأذنه أن يحضر صديقاً معه اسمه (علوان)، قبل أكرم اصطحاب ذلك الصديق بترحيب به مجاملة.

كان من بين المدعوين شخصٌ يكبر كل المدعوين سناً، صاحب جسمٍ ضخم، ورقبةٍ مليئة لا تكاد تفصل رأس صاحبها عن جسمه، وله عينان تبرقان رغم ضيقهما، ووجه طفل شجاع، من يجلس معه يعتقد أنه يعرفه منذ مدة طويلة، كان له صوت أجش لا يتناسب مع تقاسيم وجهه، بل يتناسب مع ضخامة جسمه. كان اسمه (عبد الجبار)، يتكلم بجُمَلٍ قصيرة، ويُنهي كلامه بابتسامة سريعة مع تدوير لرأسه شبه الثابت يتحرك فيه بؤبؤا عينيه البراقتين لتفقد وقع كلامه على من حوله.

عندما كان يتكلم، كان الجميع يحشدون كل حواسهم ليبدوا موافقتهم على أقواله، حتى لو لم يكن قد أكمل فكرته، فبين ابتسامة رضا وتأييد وهز رأس بالموافقة، إلا فتح اليدين وغلقها استغرابا من موقف الخصوم الذين قد يبدوا عدم موافقتهم، حتى لو كانوا غائبين!

من بين ما قاله: أن أعداء الأمة هم الرجعية والصهيونية والإمبريالية العالمية، وكان أحد الحضور يُعيد ما يقول كما لو كان شيخاً يدرس أولاد في (كُتَّاب).

اعترض علوان: اسمح لي أستاذ أن أختلف معك...
ساد صمتٌ مشوبٌ بالذعر بين الحاضرين، وتركزت أعينهم على علوان تحذره، أو تطالبه باعتذارٍ مبكر، وتمنى سيف لو أنه لم يحضر علوان معه.

ابتسم عبد الجبار قائلاً: تفضل.. أين تختلف معي؟
ـ أولاً: إن ثورةً ناشئة حديثاً، ليس من مصلحتها توسيع دائرة العداء، ولم تكد تقف على رجليها..
عبد الجبار: وثانياً..
ـ ثانياً: ألم تقم ثورتكم علاقات طبيعية مع دولٍ أجنبية صنفتها كأعداء؟ فلماذا تكون علاقاتها مع دولٍ عربية مشوبة بالتوجس وعدم الطبيعية؟ إن هذا سيخلق وسطاً محيطاً لا تتسم علاقاته بالود ولا تشجع على التقارب والتكامل الذي سيؤسس لمناخ وحدوي..

تدخل أكرم شلال (صاحب الدعوة) ورئيس اتحاد الطلبة، ليحاول ثني عبد الجبار عن تكوين فكرة خاطئة عن علوان، قد تطال آثارها الجميع. لكن عبد الجبار، ضمن أصابع يده الغليظة، طالباً من رئيس الاتحاد أن يكف عن تدخله، ليبدو وكأنه يشجع علوان على الاستمرار بالحديث...

ـ ثم لماذا أسمح للبرجوازيين أن يهربوا أموالهم؟ ولماذا أزرع الخوف في نفوس أبناء الدول النفطية لكي يخشوا ثورتكم ويبخلوا عليها في المشاركة ببناء المشاريع، مما يحرم المنطقة من تحالفٍ غير مكتوب بين دولتكم وتلك الدول؟

صفق عبد الجبار بيديه السميكتين، ولم يستطع أحد من الجلوس تفسير ذلك السلوك، هل هو إعجاب بذلك الطالب أم سخرية من أفكاره.

اختصر أكرم شلال الحديث وطلب من الجميع القيام لتناول عشاءهم..

(24)

ترك الحديث الذي دار بين عبد الجبار و علوان أثراً كبيراً في نفس الأخير، فأخذ يفكر، وما الضير من إقامة دولة الوحدة العربية ـ إن قامت ـ ؟ فهي ستصب في قوة الوحدة الإسلامية التي هي الأخرى غير موجودة، حسب رأي عبد الجبار، فليس هناك أمة إسلامية واحدة، بل أمم إسلامية، وما يُشغل الأتراك والباكستانيين والإيرانيين ليس هو نفسه ما يشغل العرب؟ قد يكون كلامه صحيحاً!

وقد يكون حديثه عن وحدة العرب صحيحاً هو الآخر، فالعربي بتعريفه، هو من يتثقف بثقافة العرب ويحفظ تاريخ العرب، ويحلم أحلامهم، حتى لو لم يكن عربياً أو حتى مسلماً!

ومتى كانت الدولة العربية أو الإسلامية، يتزعمها أكثر الناس تقوى أو أكثرهم ورعاً، ألم يختلف أصحاب رسول الله صلوات الله عليه بعد وفاته، على مسألة من يتولى الخلافة؟ ألم يقتل المأمون أخاه من أجل المكسب السياسي؟ وألم يسجن المأمون أحد الأئمة الأربعة، ومع ذلك لا نستطيع إنكار دور المأمون في التأسيس لنهضة من خلال الترجمة وتشجيع العلم والعلماء.. فالمسألة سياسية بحتة وليس لها علاقة عضوية مع العقيدة الدينية، إلا فيما يتعلق بموازين العدل..

أصبحت صداقة علوان بعبد الجبار أقوى من كل صداقات الأخير مع الطلبة العرب، وقد ضمه لتنظيماته الخاصة بعد أن اقتنع بالفكرة..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس