عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 06-11-2007, 12:07 PM   #48
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

مكة المكرمة

لم تصلنا أخبار مكة، إلا من خلال الإخباريين العرب، وما أولوا على قراءة نصوص القرآن الكريم، وإن كان بعض المؤرخين اليونانيين قد ذكروا شيئا عن مكة.. كما أن الملك البابلي ( نبونيد) في ذكره للمدن والبلدان التي خضعت لسلطانه لم يذكر إلا (يثرب) .. ولعله لم يتمكن من الوصول الى مكة، أو أنها لم تكن ذات شأن في عهده ..

وقد أورد بطليموس (عاش في القرن الثاني الميلادي) في كتابه الجغرافية اسم بلدة دعاها (مكربا Macoraba) .. وليس بعيدا أنه يقصد بها (مكة) .. فملوك اليمن كانوا يطلقون على أنفسهم من بين الأسماء (مكرب) وهي إشارة لتقربهم من آلهتهم .. وإطلاق اسم (مكربا) على مكة ليس بعيدا أن يكون مبتكرا من نفس المنطلق لقربها من (الكعبة) كما أطلق على (أورشليم) بيت المقدس لقدسية مكانها ..

أما القرآن الكريم فقد ذكر لنا (بكة) وبك ومك بلسان العرب هي استخراج واستعصار الماء من الجسم كما يحدث في البكاء .. ومن هنا فإن اسمها اقترن بظهور بئر (زمزم) بها ..

وقد عرفت مكة بعدة أسماء مثل: (صلاح) لأمنها، وأم رحم، والباسة ، والناسة، والحاطمة، وكوثى، وأورد القرآن الكريم اسما لها هو (أم القرى).. وقد يكون اسم (مكربا) لمكة صلة بمنشأ سكانها حيث يقال أن أول من سكنها كانوا من اليمن، حيث أرادوا الاندفاع شمالا، ليحموا قوافلهم التجارية.

أما اليهود فيرجعون أصلها الى أيام الملك داوود فيذكرون شعبا، اسمه (الشمعونيون ) كان يناصبهم العداء وهم من (العماليق) .. وهي نصوص منحوتة على ما يبدو، حيث أن (الشمعونيون) هنا يراد بهم (أبناء إسماعيل عليه السلام) .. وإلصاق صفة العماليق بهم هي من طبيعة نصوص اليهود .. فقد مر بالتوراة (المكتوبة) أن القتال الذي دار بين موسى عليه السلام و (بلعم) ملك أريحا، الذي كان من العماليق، أن موسى (حسب ذكر التوراة) كان طوله 10 أذرع وعصاه 10 أذرع وعندما استند إليها وقفز ضرب بلعم فكانت ضربته لا تتعدى كعب قَدَم بلعم الذي سقط أرضا ميتا، وفي مكان آخر نرى هذا (البلعم) يركب حمارة ليقابل جيش (اليوشع) الخ القصة .. ومن يتمعن في مثل تلك القصص فإنه سيرى خلوها من الأهمية، فلم يتم العثور على عظام مثل تلك الحمير التي باستطاعتها حمل مثل هؤلاء العمالقة ولم يتم العثور على قبور بحجم مثل تلك الجثث، ولكنها المبالغة، على طريقة شعر عنتر ( ومدجج كره الكماة نزاله .. الخ) ..

ويُنقل عن الإخباريين العرب أن إسماعيل عليه السلام قد تزوج من (جرهم) وينسبون أن جرهم هو ابن يقطن بن عابر بن شالخ من قحطانيين اليمن .. لكن خزاعة قد غلبتهم فطبقت عليهم قانون الغالب، وانتزعت منهم الملك ويقال أن خزاعة تركت اليمن على إثر نبوءة بانهيار سد مأرب، وظلت خزاعة على ملك مكة حتى انتزعه منها (قصي) على أيام ملكهم (عمرو ابن الحارث) ..

ولأهل الأخبار عن مكة أخبار طريفة، كقولهم أن الاسكندر المقدوني قد عبر البحر الأحمر بعد انتهائه من فتح السودان والحبشة وجاء الى مكة من الجنوب وطاف حول الكعبة واعتبروه (حاجا) .. كما فعلوا ذلك مع (ساسان) جد (أردشير) ملك الفرس، إذ نسبوا إليه أنه طاف حول الكعبة وزمزم حول البئر فسمي (زمزم!) ويستدلون على ذلك بقولهم أنه أهداه غزالين من ذهب وسيوف وهدايا ذهبية رماها في البئر ..*1

ويزعم الأخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر ين مالك، فقاتلوا قتالاً شديداً، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر.

وعلى العموم فإن أخبار مكة قبل قصي هي أخبار مضطربة غير دقيقة تكثر فيها العواطف والخيالات والتأثر بما قاله اليهود وغيرهم .. وحتى بعد قصي فإن الأخبار ليست بتلك الدقة، لعدم وجود آثار مكتوبة تؤيد اللغط الإخباري..

قريش

و "قصيّ" من "قريش". و "قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضرين كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". فهي من القبائل العدنانية. أي من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار.

أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر" وأبناؤه، من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي كل من انحدر من صلبه من أبناء. وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي"، وإنما يقال له كناني.


وقد اشتهرت قريش بالتجارة، و بها عرفت وذاع صيتها بين القبائل. وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب العامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القبائل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما يمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب. والطمأنينة، أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب. حتى عرفوا ب "قريش التجار". جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله دَر الديار، لقريش التجار".

وقد علّمت الأسفار سادة قريش أموراً كثيرة من أمور الحضارة والثقافة. فقد أرتهم بلاداً غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذّبوا لسانهم، ودوّنوا به أمورهم. وذكر أنهم كانوا من أفصح العرب لساناً، وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم.

وقد ذكر الثعالبي إن قريشاً صاروا أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بياناً لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل فأخذوا عن كل قوم شيئاً، ثم انهم كانوا تجاراً "وتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى في ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة. وقد أشيد أيضا بصحة أجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقيل: (جمل قريش)

ومع ذلك لم يجد الآثاريون أي دلالة قديمة تذكر (قريش) إلا في نص (حضرمي) يذكر شخصا يقال له (حبسل قريش!) .. وقيل إن قريش هي صفة التجميع التي عمل من أجلها قصي مؤسس تلك القبيلة ..وهناك من يرد الاسم الى من كان يقود جمال قوافلهم وكان يسمى (قريش) فيقولون جاءت عير قريش وذهبت عير قريش .. والله أعلم ..



هامش
ـــ
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.. د جواد علي/ الفصل الثاني والأربعون
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس