عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-01-2009, 11:30 PM   #2
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

على أن الشعر الحديث ( الحر) ليس كله غامضا ، يسبح في أوهام الإبهام والغموض ، فناك تجارب شعرية لم تتنازل عن رسالتها التربوية والنهضوية ، وظلت على يقين بأن الشعر ذو رسالة ، من ذلك ما قدمه مظفر النواب وأحمد مطر وصلاح عبد الصبور وشعراء المقاومة الفلسطينية غي جيلها الأول.
ولا يعني هذا أن تكون القصيدة سهلة واضحة ، لا تثير القارئ ، ولا تفتح له آفاقاً من التأويلات المحتملة لنص شعري مكتنز بالمعنى ، تتضافر فيه كل عناصر الإبداع بدءا من اللفظ وانتهاء بالإيقاع وصولا إلى الصورة الشعرية المعبرة؛ فلا بد أن يكون هناك نوع من شد القارئ لسحر النص بغموض لا يستغلق على الفهم ، من خلال إشارات نصية مفتاحية ، تحاول أن تستدرج القارئ نحو فضاءات النص ليتفاعل معه ، فالقارئ ما هو إلا منتج آخر للنص بإنتاجه المعنى والتأويل.
استلهام التراث والأسطورة والتاريخ:
ويستند الشعر الحر من جانب آخر على استلهام التراث والأسطورة في البناء الشعري ، وترميز تلك العناصر ، فتجد الشاعر في قصيدة ما يوظف بعض ما جاء في الإنجيل أو التوراة ، أو يقتطع نصوصا منهما ، وقد يوظف الشاعر النص القرآني بألفاظه وقصصه وتعابيره وشخصياته ، كما يظهر عند الشاعر محمود درويش في قصيدته " حبر الغراب "، فيوظف الشاعر في هذه القصيدة القصة القرآنية الواردة في سورة المائدة التي تصور الصراع بين ابني آدم ( هابيل وقابيل) ، ويضمن الشاعر جزءا من الآية في النص الشعري:
ويضيئك القرآنُ:
¼ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض
ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال:
يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب»
ويضيئك القرآنُ،
فابحث عن قيامتنا وحلق يا غرابُ!
كما يوظف الشاعر الحديث الأسطورة القديمة عربية وإغريقية وسومرية وبابلية من مثل : العنقاء والغول والسندباد ، وجلجامش وعشتار ، وسيزيف ، وغيرها ، فقد الشاعر محمود درويش – على سبيل المثال – الأسطورة كثيرا في ديوانه " سرير الغريبة" الذي حشد فيه الشاعر كثيرا من الأساطير المتعلقة بالحب
ولم يكتف الشاعر الحديث بذلك ، بل جعل من التاريخ وحوادثه وشخصياته مادة استلهمها الشاعر ، فقد تجد في الشعر الحر إشارة لحرب جاهلية ، أو لحرب إسلامية ، أو حادثة اجتماعية ، أو ظاهرة معينة ، وقد اتكأ الشاعر الحديث على شخصيات التاريخ اتكاء واضحا ، وأشير هنا إلى دراسة منشورة في مجلة " عالم المعرفة"، يبن فيها صاحبها كيفية توظيف الشخصيات التاريخية في الشعر الفلسطيني ، فذكر من تلك الشخصيات التتار والخليفة والسجان والجلاد والروم وكسرى وقيصر) وهي شخصيات تاريخية عامة ، ويقف عند شخصية ( الحسين بن علي ، وصلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام )( ، وعندما يوظف الشاعر هذه الشخصيات فإنه يتخذ منها أقنعة يختبئ وراءها في تقديم فكرة معينة().
وقد حازت أحداث الأندلس مساحة لا بأس بها في الأدب الحديث بشكل عام ، والشعر بشكل خاص ، حيث تشكلت ظاهرة في هذا الأدب ، وقد سجلها كثير من الشعراء ، فقد عرف عن نزار قباني أندلسياته ، تلك القصائد التي تحدث فيها عن مجد العرب الضائع في الأندلس()، وقد خصص الشاعر محمود درويش ديوان" أحد عشر كوكبا " ليوثق العلاقة المأساوية بين الأندلس الضائعة وفلسطين التي أضحت أندلسَ ثانية في العصر الحديث()، ومن يتتبع هذا الموضوع يجده غزيرا في الأدب العربي الحديث ، وخاصة في الشعر الفلسطيني(.

التكرار في الشعر الحر:

لم تكن ظاهرة التكرار حكرا على الشعر الحر، فقد وجدت هذه الظاهرة في الشعر العربي القديم ، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك قصيدة الحارث بن عباد " قربا مربط النعامة مني ..." التي قالها بعد مقتل ولده()، وقصيدة عمر بن كلثوم في قوله:" بأي مشيئة عمرو بن هند ..."()،ووجد التكرار كذلك في القرآن الكريم ، في سورة الرحمن() ، وسورة الشعراء ، وسورة المرسلات ، وغيرها ، وتستحق ظاهرة التكرار في النص القرآني وقفة متأنية لبيان وجوه الإعجاز فيها ، والدلالات التي تؤديها.
وجاء الشعر الحر ليبعث في ظاهرة التكرار بعدا جديداً، إذ لم تكن هذه الظاهرة مجرد ترديد لمجموعة من الألفاظ والجمل الخالية من المعاني ، وقد تحدثت نازك الملائكة في كتابها" قضايا الشعر المعاصر" عن هذه الظاهرة ، وعرضت أنواعا من التكرار، ومن ذلك : تكرار اللفظ ، وتكرار الجملة ، أو بيت شعر ، أو مقطع ، وتكرار الحرف ، وقد جمعت كل أنواع التكرار السابقة في ثلاثة أقسام حسب الوظيفة التي تؤديها في السياق الشعري، وهذه الأقسام هي:
1. التكرار البياني : وهو التكرار الذي يلجا إلى التأكيد على الكلمة المكررة أو العبارة().
2. تكرار التقسيم: وهو تكرار كلمة أو عبارة في ختام كل مقطوعة من القصيدة(.
3. التكرار اللاشعوري: وتعرف نازك الملائكة هذا النوع من التكرار بقولها:" التكرار الذي يجيء في سياق شعري كثيف يبلغ أحيانا درجة المأساة ، ومن ثّمّ فإن العبارة المكررة تؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة إلى درجة غير عادية.
وتضيف الشاعرة لتوضيح هذا النوع " ويغلب أن تكون العبارة مقتطفة من كلام سمعه الشاعر فوجد فيه تعليقا مريرا على حالة حاضرة تؤلمه أو إشارة إلى حادث مثير يصحّي حزنا قديما أو ندما نائما أو سخرية موجعة"(
وتبين الشاعرة أن التكرار يحكمه قانونان لا بد من مراعاتهما معا عند توظيفه في النص الشعري، وهما:
1. التكرار إلحاح على جهة مهمة في العبارة يعنى بها الشاعر أكثر من غيرها وبالتالي فإن التكرار يأخذ بعدا نفسيا ، له علاقة بنفسية الكاتب
2. إن التكرار يخضع للقوانين الخفية التي تتحكم في العبارة ، وهو قانون التوازن ، ففي كل عبارة طبيعية نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات كلها(.
وتوضح نازك الملائكة في ختام دراستها لظاهرة التكرار في الشعر " إنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة، وإن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات".
وأشير فيما يلي إلى بعض مواطن التكرار في شعر الشعراء الحداثيين ، من ذلك قصيدة " حوار " للشاعر صلاح عبد الصبور ، فقد كرر " أأنت من سكان هذه المدينة!" في قصيدته هذه ست مرات ،مكتفيا في مرتين منها بتكرار مفتتح السؤال "أأنت..." مع وضع إشارة الحذف(. وقد وظف نزار قياني التكرار في قصائده، ومن هذه القصائد قصيدة" الحزن" ، حيث جعل جملة " علمني حبك" مفتَتحا لكل مقطع(، أما الشاعر بدر شاكر السياب فقد اعتمد فنيا ومعنويا على التكرار في قصيدته " مطر" ، فقد تكررت كلمة مطر بتراتبية( معينة ، تخدم السياق والمعنى ، وقد بلغ عدد المكررة فيها كلمة مطر(26) مرة.
ومن الظواهر اللافتة للنظر في شعر محمود درويش التكرار ، فقد وظفه في كل مستوياته ، بدءا من تكرار الحرف ، وانتهاء بتكرار الجملة ، ويمكن أن يقدم المرء مثالا لظاهرة التكرار في شعره قصيدته"أنا آت إلى ظل عينيك آت"، فقد كرر الجملة الافتتاحية " أنا آت إلى ظل عينيك آت" ست مرات في تضاعيف القصيدة ، وليس هذا وحسب ، بل إن في القصيدة نوعا من تكرار الضمائر (أنتِ) والضمير (أنا) ولفظ (آتٍ) ،في القصيدة في مواضع غير الجملة الافتتاحية، وكرر كذلك الأفعال ، وتكرار جــملة " مــا الــذي" مع الفعل المضارع ، وكرر كذلك الفعل الماضي " فروا" ، والفعل الماضي " باع".
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس