عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-05-2010, 11:20 PM   #3
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



للنفس أغوار لا يستطيع الإنسان سبرها ، وهذه الأغوار كلما حاول الواحد ترويضها بعصا الحرف ازدادت استعصاء ، ومن هنا تكمن إحدى مشكلات هذه النفس في استخدام اللغة التي تصف تداخلات الأفكار وسيرورتها إليها ، كما أنها -من ناحية أخرى- قد توحي للقارئ بأن الشاعر قصد الحديث عن عالم آخر غير عالم النفس .
هذه النفس هي ذلك الكائن الغريب الذي يجمع بين كل من مراوغة الحية وتخفي الحرباء ، لا يقتنصه إلا صقر يحسن استغلال علو المسافة التي يقبع منها وسرعة ولوجه حتى يكون فمه هو الجحر الآخر الذي تأوي إليه تلك الحية أو الحرباء مرغمة .
وهذا ما نجده متحققًا في هذه القصيدة والتي هي من القصائد النادرة التي يذكر فيها الشاعر لذة هذه المقاومة لكتابة قصيدته وما ينتابه من ألم ولذة في ذات الوقت ، وهذه الفكرة ليست بالمبتدعة فقد كان للشاعر خليل الحاوي قصيدة في هذا الفلك عن مدى معاناة الكاتب في إبداع قصيدته وكانت تحفة أدبية مكللة بطرفة غير تقليدية تخرج بالقارئ إلى حالة من الإدهاش لهذا التمكن غير الاعتيادي على سبر أغوار عالمه الخاص .
وهذه القصيدة أحسبها سائرة في ذات الفلك ، كما أنني لا أستبعد أن تكون متناولة قضية أخرى غيرها لتكون القصيدة بذلك في حالة إشعاع وامتداد دلالي لأكثر من واقع ، وتكون ثمة نقطة تلتقي فيها هذه الأبيات ومراميها.
يجتاح اوردتي الحديثُ فأمنعُ


تيارهُ يومٌ بأمسهِ يخدعُ

هنا نجد البداية متوترة من خلال الاجتياج الذي يصل إلى الأوردة ،وإذ تكون أوردة الإنسان في الحياة هي نبع الدماء ،فتكون الأوردة في عالم الشاعر هنا هي المخ وما فيه من أفكار ورؤى ، ويأتي الفعل أمنع لتعبر عن هذه الرغبة في (السيطرة) على عالم القصيدة ومنعها من الولوج إلى عالم الواقع ،وهذه حالة تنتاب الكثيرمن الشعراء حين تكون في رؤوسهم ما يشبه خيالات وأصداء لكنها لم تهتد بعد إلى مكانها الحقيقي على الورقة. وهذا هو فعل الخداع الذي لا يدري القارئ أثمة ما يجد ليكتبه فعلاً أم هو أز وشبيه وسوسة حتى إذا جاء ليكتب لم يجد شيئًا ؟!
في زورق التذكار وحيُ قصيدةٍ
للآن( يجرحها/ يجرفها) الغيابُ فتدمعُ
وهذا البحر عالم النفس تسير فيه قصيدة هي ذلك الزورق الذي كان آتيًا من ماضٍ
لم يكن يظن أنه سيأتي منه ،كأنها عملية البعث لأفكار ميتة ،ثم هي تلج إلى عالم الواقع
وكان التعبير يجرفها الغياب كان من التعبيرات الرائعة في وصوله إلى هذا العالم الخفي
وتشبيهه –وهو الغائب- بالبحر وهو واقع مرئي ملموس،وهذا التناقض المسمى إلغاء الروابط
وإعطاء الأشياء عكس دلالتها يزيد القصيدة رونقًا ويفتح مصارع الدهشة للداخلين ،وهذه الحالة من الصراع ما تزال مستمرة إذ يكون الغياب معلنًا سطوته عليها بينما في محاولاتها الولوج إلى عالم الحياة تجد هذه الممانعة فتدمع.
هذا التشخيص للأشياء وإعطاؤها سمات بشرية علامة على بلوغ هذه الأشياء مكانة استثنائية للشاعر يحسن توظيفها في النص .
وهذه الحالة المسيطرة على الشاعر هي حالة من المد والجزر ما يظنها تنتهي حتى تباغته مرة أخرى ،فهنا الانتقال من وصف القصيدة ومعاناتها إلى وصف إدراك الشاعر لها وتوقعه بانتهائها ولكنها تعاوده مرة أخرى :

ما أنفكّ يفترش الزمان نهاية ً
في بدئها يومٌ لعامٍ يبلعُ

وعنصر الحركة في افتراش الزمان نهاية حتى كأنه بساط يمتد كان صانعًا حالة من التفاعل النشط مع المعنى
ومعطيًا دلالات أكثر توهجًا وحيوية إذ تعود هذه الأفكار مرة أخرى بعد إذ ظن أنها انتهت ، وهذه الأفكار المسيطرة
على الشاعر هي أقوى من الزمان وأشد استعصاءً إذ أنها تجيء كيوم يبتلع العام ،فهي الحالة تأتي مرة ولكنها تزيل آثار الزمن ومحاولاته الإقصاء.
وهذه الحالة التي هي مد وجزر بين الإنسان والفكرة تأتي مرة أخرى وقد تكون المعاناة في إفهامها الآخرين لتأتي على هذا النحو :
مأساتهُ ما سارَ يرسمها لهم
وهماً ولون شروقها لايقنعُ
قد يكون المبدع في سعيه الحثييث وراء الفكرة غير قادر على إيصالها لقارئه ،فتبهت ولا يقنع لون شروقها كما أن المعنى يتسع عن الإطار الضيق للقصيدة لتكون فلسفة الحياة ورؤية الإنسان لأحداثها هي ذلك الشبح المستعصي على الآخرين إمساكه ،ويتوازى عالم القصيدة مع عالم الإنسان الحي في أن كلاهما مأساة ومعاناة وكلاهما يبحث عن آخر غير قادر على فهمه .
وتظل هذه الحالة من الصراع حتى تستقر في لحظة استثنائية على هذا النحو الزاهي:
صدء القرون على يديه منائراً
شماء تغسلها السنون فتلمع
إنها لحظة البعث التي جاءت بالفعل وغسلت صدء القرون الماضية من هجرة الفكر والكتابة،وعلى العكس مما هو الواقع إذ تكون السنون عاملاً باعثًا على الصدء تكون هذه السنون مطرًا يغسل هذه الذاكرة ويعيد إلى زروعها خضرتها ونضارها وهذا لأن يومًا يبتع عامًا ، فتصير سائر الأعوام مبتلعة في هذه اللحظة وتجرفها تيارات النور فتأتي الفكرة ،لأنها بالفعل قد ذهبت السكرة.
وبعد هذا الوصف للمعاناة نجد القصيدة انتحت منحى آخر وهو حالة الاستقرار الذهني بعد تبلور الفكرة وظهورها كائنًا حيًا باعثًا على البهجة في عالم النفس :

قد أيقظ الأسباب في الأصلاب حيـ
ن تعطلت ينتابهاما يهلع

ترك الجهات منقادةً لبزوغهِ
كالشمس اين يسيرُ شرقٌ يطلعُ




وكان تعبير إيقاظ الأسباب مفاجئًا في بيئة هذه القصيدة وفكرة ميلاد القصيدة مولدًا إنسانيًا أراها


من الممكن أن تشوش الصورة على القارئ وتدخله في عالم غير العالم الذي كان فيه وإن كان عالم النفس والميلاد والطبيعة يشتركون في هذه الحركة الجديدة وهي حركة الميلاد ،بعد ذلك نجد نشوة الواقع الذي يسعى إليه الشاعر في هذا النبت الجميل كما في البيت :ترك الجهات ..... وإن كان فيه كسر عروضي في الكلمة منقادة وجمال هذا البيت في التعبير عن إشعاع الفكرة في كل اتجاه كما هو في الشطر الثاني منها ،ففي كل حال تشع القصيدة وتشع الفكرة وتشع الشمس على بساتين النفس .


بعد ذلك يستمر الوصف واصلاً إلى الشاعر نفسه بعد القصيدة ليؤكد الشاعر بذلك فكرة مفادها أن الأفكار أهم من أصحابها لأنها الأبقى بعد رحيلهم ، لهذا بدأ بوصف معاناتها هي وكأن الشاعر معزول عنها مع أنه هو الأكثر معاناة ،وذلك في البيت :


خلواتهُ تسبيح قبّرة الذرى

والفجر في حضن السواد مبرقع




إن الشاعر هو ذلك الإنسان الذي يجد هذه الصعوبات في انبلاج النهار من رحم الليل ،وهذه الخطوات اللتي يسيرها هي كالتسبيح لطائر القبرة لكني لاأعلم هل له تسبيح يختلف عن سائر الأطيار أو له تغيرد مميز عن سائر الطير ؟ وهذه الحالة من الانفصام هي حالة الطمأنينة التي تنتاب الشاعر بعد كتابة القصيدة وتأملها ، فرغم ما حول الشاعر من ظلمة إلا أن حالة الخلوة المسيطرة عليه تجعله متناسيًا بل ناسيًا فعلاً كل شيءوليبقى هذا الصوت صوت الشعر –الرؤية-الفكرة هو الذي يتغلب على الظلمة ،لأن المحسوسات السميعة تنتصر على نظيراتها البصرية، فكأن في البيت تعبيرًا عن إبصار من خلف الحجب .
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس