عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-11-2014, 01:27 PM   #3
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

محيط مكة عشية ظهور الإسلام

يتساءل أعداؤنا لماذا نزلت رسالة الإسلام في مكة وعند العرب؟ ولم يكن لديهم إلا الجهل، فسمى مؤرخوهم (أي العرب: والكلام للمتسائلين) العصر الذي سبق الإسلام بالعصر الجاهلي؟

من جانب آخر، فإن المنحازين للعرق العربي، يفسرون الآية {كنتم خير أمة أُخرجت للناس} بأن هذا تصريح من رب العالمين بأن هذه الأمة مؤهلة لتلقي الرسالة السماوية ونشرها. ولن ندخل في تفصيلات التفسير لتلك الآية والمواقف المختلفة منها، ولكن أوردنا ذلك لتبيان الرأيين للتأسيس عليهما.

لقد اكتفت الأيديولوجية الماركسية بالتركيز على الجانب المادي والاقتصادي في نظرتها للإسلام، فلم تجد في الجاهلية غير مجتمع الصحراء والعلاقات الاجتماعية القائمة على المشاعية والعبودية والاستغلال الطبقي لكبار التجّار. ولم تجد في الإسلام غير (دين) الصحراء الذي نشأ في (وادٍ غير ذي زرع). ولم تنفذ الى جوهر العلاقة بين المراحل التاريخية، ولم تتبين الدور الحقيقي للإسلام في حياة العرب.

لم يكن عرب الجزيرة معزولين عن محيطهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، بل كانوا متواصلين معهم يعرفون كل التفاصيل عن ذلك المحيط، من فرس وروم وأحباش وأقباط، ومسيحيين ويهود وأحناف وعبدة النار وعبدة الأصنام. وقد مَنّ الله في كتابه الكريم عليهم بذلك عندما قال {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}. وقد ذهب بعض المفسرين لكلمة (إيلاف) بأن قريش كانت مُحاطة بثلاث قوى كبرى (في وقتها) (الفرس والروم والأحباش)، وسكوتهم عن قريش هو الإيلاف الذي آمنهم من خوف.

(1)

في المجتمعات البدائية، يكون المجتمع امتداد للطبيعة، يغلب عليه السكون، وظاهرة تقسيم العمل مفقودة، وهو في مرحلة غياب الوعي الاجتماعي وغياب المنطق وغياب فكرة الزمن وهيمنة القيم السحرية وضعف الشعور بالمكان، ولا يوجد شعور جمعي.

في المجتمع البدوي، يكون المجتمع صحراوي قائم على تحدي الطبيعة ومتحرك قائم على التنقل والصراع ويبدأ ظهور تقسيم العمل وبذرات الصراع الطبقي، ومرحلة المنطق الحسي، وبدايات الوعي برباط اجتماعي ضيق(قَبَلي)، والتعامل مع الزمن في بُعده (الحاضر)، وبروز قِيم خُلقية وجمعية.

إذا أردنا أن نمر على بعض صفات المجتمع الجاهلي ونتلمس الجيد منها، فلنتتبع ذلك بالقرآن الكريم وما يذكره في النهي عن بعض الصفات ومحاكمة ذلك المجتمع من خلالها:

وأد البنات: {وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت}، وكان ذلك خوفاً من أن تضطر العائلة لزواج البنت من عائلة غير كريمة، أو يضطرها الفقر الى دفعها للبغاء، {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا}، فالدوافع وجيهة وإن كان الإجراء مكروهاً وسيئاً.

قتل الأولاد أو حتى الأسرة بالكامل {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}؛ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} وقد مررنا على ذلك في ظاهرة (الاعتفاد).

أكل الميتة والدم: كانت بعض الأسر تنقع بعض الجلود بما تبقى بها من لحم ناشف من (سخلة) ميتة منذ مدة لتأكلها من شدة الجوع، وكان الفقير إذا جاءه ضيفٌ يذهب الى راحلته الوحيدة ويستخلص دماً من أسفل ركبة الجمل ويضعه في (جفنة) ويقربه من النار ليتخثر ويخلطه بالتمر، وذلك ليقوم بواجب الضيافة،*1 وقد جاء في التنزيل تحريم الدم والميتة.

(2)


لقد كان لمكة في عصر ما قبل الإسلام دورٌ مركزي احترمته شعوب المنطقة المحيطة بالجزيرة العربية، وذلك الدور لم يكن يتم بالانتخاب أو بالفرض القسري، ولكنه على ما يبدو كان اعترافاً ضمنياً بأن تلك الشعوب المحيطة منشأها الأصلي من تلك البقعة أو محيطها القريب.

إن باحثاً، كالعالم الإيطالي كايتاني L. Caetani يعتقد بأن (جنة عدن) المذكورة في كتب التاريخ القديم، كانت حقاً في جزيرة العرب، وأن بلاد العرب كانت جنة حقيقية وبقيت محافظة على بهجتها حتى الألف الخامس أو الرابع قبل الميلاد، وأن موجات الهجرة المتتالية وصلت بأبناء الجزيرة حتى سواحل المحيط الأطلسي (المغرب وموريتانيا وحتى السنغال)، فانصهر العرق العربي مع الأعراق الأخرى، وأوجد نوعاً من التلاقح الروحي بقي حتى يومنا هذا*2

وما يؤكد هذا الرأي أن منطقة المغرب العربي الكبير قد كانت تحت الحكم الروماني لأكثر من سبعة قرون، لم يستطع خلالها الرومان تنصير أهلها، في حين ما أن دخلت موجات الفتح الإسلامي تلك المنطقة سرعان ما انخرط أبناؤها بالدين الجديد واشتركوا بسرعة فائقة في الفتوحات والتي وصلت أطراف أوروبا الجنوبية (إيبيريا: الأندلس وما حولها)، ولأن تلك المنطقة الأوروبية ليس بها من خاصية التلاقح الروحي لم يبق الإسلام فيها كما هي الحال في شمال إفريقيا، رغم أن مدة حكم العرب لها تفوق مدة حكم الرومان لشمال إفريقيا.

(3)

عندما أراد الخليل بن أحمد الفراهيدي والنصر بن سيّار تدوين الكلام العربي، وضعوا جذوراً لأكثر من مليون ونصف كلمة*3، يتعامل بها أبناء اللغة العربية بيسر حتى اليوم. في حين لا يستطيع أبناء بريطانيا قراءة شكسبير دون الاستعانة بقواميس وهو لم يمض على وفاته خمسة قرون.

لقد عَدَّ المفكر الألماني (هردر Herder 1744ـ1803) أن اللغة ليست مجرد أداة للفكر، بل هي أيضاً القالب الذي يتشكل فيه الفكر، ولا نظن أن هناك من يجادل في كون الطفل الصغير يتعلم التفكير بواسطة الكلمات التي تقدمها له لغة المجتمع الذي ينشأ فيه.

كانت مركزية مكة تُدعم بالنشاط الثقافي وحتى الفكري السياسي من خلال تجمع ما يشبه المهرجان السنوي في سوق (عكاظ) ليتبارى فيه الشعراء، الذين ينشدون الشهرة في محيط أرحب من محيطهم الذي أتوا منه.

فلنتأمل هذا الشعر لزهير بن أبي سلمى:

ومن يك ذا فضـل فيبخـل بفضلـه .. على قومـه يستغنـى عنـه ويذمـم

ومن هـاب أسبـاب المنايـا ينلنـه .. وإن يـرق أسبـاب السمـاء بسلـم

ومن يجعل المعروف في غير أهلـه .. يكـن حمـده ذمـا عليـه ويـنـدم

إنها حِكم من معلقة طويلة تلخص القواعد الخلقية وأسباب الحروب الخ.

أو لنتأمل هذه الأبيات للأفوه الأودي:

والبيـتُ لا يُبْتَنَـى إلا لـهُ عَمَـدٌ......ولا عِمـادَ إذا لـمْ تُـرْسَ أَوْتـادُ
فـإنْ تجمـعَ أَوتــادٌ وأَعـمـدَةٌ........وساكنُ بلغوا الأمرَ الـذي كـادوا
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ..........ولا سَـراةَ إذا جُهالُهُـمْ ســادُوا

لقد شبه الشاعر الدولة ببيت البدو، الذي لا يقوم إلا على أعمدة، ولن تنفع الأعمدة إذا لم تثبت حبال الشد أوتاد.. الخ

كانت لغة قريش، والتي هي تشبه لحد كبير لغة بني إياد (عرب العراق) هي بمثابة اللغة الرسمية التي يتوجب على التجار والشعراء الإلمام بها، وهي اللغة أو اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم، والتي يتعامل بها عرب اليوم.



هوامش
*1ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ بيروت: دار العلم للملايين.
*2ـ مقدمة في دراسة المجتمع العربي/ الياس فرح/ بيروت: دار الطليعة ط2
سنة 1980 صفحة 39
*3ـ تكوين العقل العربي/ محمد عابد الجابري/ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الخامسة 1991؛ صفحات 75 وما بعدها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس