الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-10-2006, 03:38 PM   #36
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

ذيبو الحصاد :

تفرح الأم بعد أن تعاني من فترة الحمل والولادة نفسها ، عندما تحس أن وليدها سليم ، وتبتهج بصورة أكبر عندما تقع عيناها عليه ، إن رؤية الوليد ولمسه ، تعمل بشكل سريع لإزالة الآلام و تعيد حالة حب الحياة ، فكم امرأة توفت عند الولادة وهي تبتسم ، لأن وليدها سليم .

وكم من أب قطع عن فمه اللقمة لكي يتمم مشروع تدريس ولده ، وما أن يتخرج ، حتى تزول كل معاناته دفعة واحدة ، دونما أن يتيقن من أن ولده قد وصل بر الأمان .. فقد كان الهدف : هو دراسة الولد ، وها هو قد تخرج ، لقد انتهى الهدف الأساس ، كما في حالة الولادة .. لقد ولد المولود دونما أن تكون هناك ضمانات بأن يكون هذا المولود خال من الأمراض وصاحب مستقبل جيد ، فقد يكون مخترعا أو قائدا أو صائعا .. فهذه مسائل لم تدخل بفكرة الفرحة ..

يفرح الفلاح ، عندما يبذر بذاره في الأرض ، فقد ابتدأ خط السباق من تلك اللحظة ، كما هو من يتيقن من تلقيح بقرته ، أو من يحضر كتاكيت بعمر يوم واحد ، كلهم قد بدءوا من خط بداية ، ويشكل الحصاد خط النهاية لفلاح القمح وولادة البقرة لمربي المواشي ، واكتمال نمو الفراخ لمربي الدجاج اللاحم .

عند وصول خط النهاية في كل سباق ، تجد هناك أناس يتجمعون ليروا من الذي سيسبق ، وقد لا يعرف أي واحد من المتسابقين ، كما هو الحال عندما يتوقف أحد المكلفين من زوجاتهم بإحضار لوازم البيت ، وقد طلب منه أن يستعجل ، لأن الوقت قد يمضي دونما أن تكمل ربة البيت عملها للعزومة . ومع ذلك يتوقف هذا المستعجل ، ليراقب خناقا بين أشخاص ، قد لا يعرف منهم أحدا نهائيا . لماذا توقف ؟

لم يكن (ذيبو ) صاحب أرض ولا صاحب بقرة ولا صاحب فراخ ، ولم يكن للعبث و الفضول في حياته مكانا ، بل كان كادحا يتعامل مع الحياة كمشَاهد متعددة لتحريك العضلات وفق إرادة من يدفع له لقاء تحريك تلك العضلات في عمل هم يعرفون طعمه و نوعه وما سيئول إليه .. وذيبو أيضا يعرف ، لكن لا يشغل نفسه في كثير من الأمور ، لأن الانشغال بها ، يصنف مع العبثية، هو لم يعرف تلك العبثية ماذا تعني، لكنه كان يتجنب ما يدلل عليها، دونما أن يدرك أن ذلك من باب الابتعاد عن العبثية ..

كان ذيبو ينام قرب البغال و الحمير والجمال، لأن هناك مكان نوم (المرابعي)، وقد سمي (مرابعي) لأنه يأخذ ربع ما يقوم بعمله ، فهو يبذر و يحرث و يحصد ويدرس و يذري ويقطف و يخزن ، ويهتم بالحيوانات التي كانت تقوم بمساعدته في إنجاز الأعمال السابقة ، فعندما نقول يبذر ، يعني نقل حبوبا من القمح أو الشعير أو العدس وغيرها ، على ظهر الدابة ، وسار بها خمسة كيلومترات ، يمشي بمحاذاة الدابة ويحافظ على كيس الحبوب من السقوط . ثم يقوم بتخطيط الأرض برجله حتى يعرف المساحات التي بذرت ، ثم يأخذ في حضنه بواسطة قطعة قماش اسمها (مبذرة) ، وتلمس يداه كل حبة من الحبوب ، وعندما يصر عينه اليمين ويمد لسانه مع كل رمية من رميات البذار ، كان كأنه يقوم برقصة موزونة الإيقاع ، وعندما كنت أتساءل : ماذا يعمل هذا الرجل ؟ وسألته وكنت يافعا بالقدر الذي يجعله يزهو بدور المحاضر ، كان يقول يجب علينا بكل رمية أن نضمن سقوط خمس حبات من القمح في مساحة كف اليد ..

وكان بعد أن يتمم البذار ، عليه أن يباري بغله لحرث الأرض ، فهو مطلوب منه أن تطأ قدماه كل حبة تراب من الأرض ، مع فرض هيبته على البغل ، حتى يلتزم بالمسير المستقيم .. وعليه أن يتفقد نصل المحراث بين فترة وفترة ليأخذه للحداد ليصرفه ( يجعله حادا ) ..

وإن ظهر (دغل) حشيش غريب ، بعد إنبات البذور ، على ذيبو إزالتها . كان غير متزوج ، أو أنه قد يكون متزوج ولكنه يناضل بالابتعاد عن ذويه ، من أجل أن يؤمن لهم لقمتهم .. وإن كان غير متيقن من ذلك ..

كانت العجوز التي تعد طعام العشاء لها ولزوجها و لأبنائهم الخمسة وزوجاتهم وأبنائهم التسعة وبناتهم الثمانية و ذيبو وزميله المرابعي الثاني .. وكونها كانت تقوم بدور المخطط والمدبر ووزيرة التموين ، فعليها أن تقتصد بقدر الإمكان تحسبا لسنين قحط قد تحل بالبيت وساكنيه .. لكنها كانت تبالغ بذلك التقتير ، فكانت تطبخ حوالي (الصاع ) من جريش القمح ، وتضع عليه ضعفه من الماء ليصبح (طبيخا) ثخينا ، ثم تضع قطرات من الزيت في (مقلى) وتضع فيه البصل المفروم ، وبعد أن يتحمص البصل ، تضيف عليه من آنية بجنبها أكثر من لتر من الماء ، فتصنع تلك الإضافة (طشطشة) وتسكب ما حدث لديها فوق الطعام المسكوب في أواني .. حتى اعترض ذيبو يائسا : عمة .. عمة (مخاطبا العجوز) : إنك تضحكين علينا .. إن ذلك ليس (قفرة ) أي ليس دهنا .. بل ماء بئر .. خافي من الله يا عمة لم نعد نرى ليلا من سوء التغذية .. طبعا لقد دربت العجوز على سماع مثل هذا الكلام ، ولن يؤثر بها قطعا ..

كانت عملية الحصاد من أقسى ما يمكن أن يقوم به الإنسان من أعمال ، فهي تأتي في أشد أوقات السنة حرارة ، وعلى من يحصد أن يمس كل عود واقف أمامه ويقطعه ، ويجمع مع معه عيدان أخرى ويرميها في إيقاع ، وعليه إذا كانت عملية الحصاد تجري (زحفا) فإن ركب الحصاد ستواجه صراعا مع قطع الحصى والشوك . وإن أراد الحصاد أن يشرب وما أكثر حاجته للماء ، فإنه سيصب قليلا من الماء الفاتر من صفيحة معدنية ، تلوذ بكومة قش حتى تبرد وتصبح منعشة !

لن يكون من السهل عليك أن تتضامن مع (ذيبو) ضد من يعمل لديه ، فكلاهما كان يعيش حياة بائسة ، كحياة معظم الفلاحين العرب ، الذين يتسم عملهم باللايقين .. فلا زارع القمح متيقن من حصاده و ان حصده غير متيقن من بيعه بسعر ملائم .. وكذلك هذا حال معظم أصناف العمل الزراعي ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس