الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-08-2006, 03:25 PM   #32
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

عطوفة المدير العام عبد العزيز

إذا كان نحت شرعية أنظمة الحكم في البلاد العربية ، يتم من خلال بناء الهالة الأولى المحيطة بنظام الحكم ، فإن أفراد تلك الهالة سيكونون معنيين في اختيار أفراد الهالة الثانية ، ليستمدوا منها مبررات بقائهم بالهالة الأولى ، ولتكون تلك الهالة مصنعا لإمداد الهالة الأولى بالأفراد ..

ليس هناك الكثير ما يطلب من المدراء العامين ، في بلادنا ، فمن يعينهم يعلم أنه قطع إقطاعية و منحها لمن يستحقها حسب مسطرة الحاكم ، ولا يستحقها حسب مسطرة المصلحة العامة ، التي نسمع بها ولا نراها .


ينشغل المدير العام المعين بمرسوم عالي ، في أول أيامه في استقبال المهنئين ، وتغيير ديكور مكتبه وسيارته الخاصة ، ثم يلتقي برؤساء الدوائر الفرعية التي تتبع لإدارته ، ويتكلم معهم بكلام ، حفظوه عن ظهر قلب ، محشوا بكلمات مثل المصلحة العامة والتفاني بالعمل ، وعدم مساواة المبدع بالمهمل ، ومقارنات مع حضارات العالم القائمة ، ويذكر لهم ما رآه في فرنسا أو اليابان أو يسرد لهم إبداعاته في دوائر أخرى قبل أن يحل عليهم منقذا ..

يهز الجميع رؤوسهم ، ولا ينسوا أن يرفقوا هز رؤوسهم بابتسامة توحي للمدير العام ، بأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قدومه كمنقذ ، ورغم معرفة المدير العام بأنهم يكذبون ، فإنه يعتبر هذا النفاق عبارة عن دفقات من التبجيل و التوقير يستحقها عن جدارة .. ورغم معرفة هازي الرؤوس ـ أنفسهم ـ بأنهم يكذبون ، إلا أنهم يصرون على ألا يخطئوا بأي حركة !

لا يتذكر الناس أشخاصا اعتياديين ، يتواجدون بينهم بشكل طبيعي ، إنما يتذكرون أشخاصا مخترعين أو قادة أشاوس ، أو أشخاصا يسمع عنهم الناس ولكن لا يروهم ..

وبما أن معشر المدراء العامون في بلادنا ، ليس من النوع المخترع ، ولا من النوع القائد الفذ ، فإنهم يبتكرون طرقا للتخفي عن عيون العامة ، حتى يكتسبوا أهميتهم المفقودة .. فكلما تطورت وسائل التخفي والابتعاد عن العامة ، كلما ازدادت أهمية هؤلاء المدراء .

وقد نمت مهارات تتواكب مع تلك الطلبات المتزايدة من المدراء العامين ، فالسكرتيرة أو مدير المكتب ، عليه أن يتقن معرفة الأجوبة اللازمة : عطوفته عنده اجتماع ، عطوفته عند الوزير ، عندك موعد مع عطوفته ؟ الخ

كان الدكتور عبد العزيز نموذجا صادقا عن تلك النماذج ، فهو خريج دولة من أوروبا الشرقية ، في مادة لا تحتاجها البلاد نهائيا ، وكانت معظم المعلومات التي تعلمها ، قد جاء بها إشعارات من منظمة الأغذية والزراعة والدولية التابعة للأمم المتحدة ، بأنها أساليب خاطئة ، على المعنيين تجنبها وعدم تطبيقها !

لا زلت أذكر حديث خبير تلك المنظمة ( الفاو) في أواسط السبعينات من القرن الماضي ، عندما أخذ يسرد في محاضرة له : بأن مساحة البلدان العربية تقل قليلا عن أربعة عشر مليون كيلومتر مربع ، وأن 78% منها في إفريقيا والباقي في آسيا ، وأن 3.4% من تلك المساحة صالح للزراعة ، منها 30% على حوض النيل ، و44% في دول المغرب العربي ، و22% في الهلال الخصيب والباقي في الجزيرة العربية ..

وبعد أن أنهى محاضرته ، ابتسم بمكر وقال : كنت أسأل نفسي ، لو ألغيت وزارات الزراعة في البلدان العربية ، ماذا سيحصل في الزراعة .. صمت وأجاب لوحده : لا شيء !

لم أكن أدرك مغزى تلك الطرفة بشكل جيد ، ولكنني عندما تعرفت على الدكتور عبد العزيز .. أدركت حكمة ذلك الخبير ..

كان الدكتور عبد العزيز ، يرتب مع الإذاعة أو التلفزيون الحكومي ، لقاءات على الهاتف ، إذا ما جاء في شهر يناير/كانون الثاني المطر بشكل جيد أو غطت الثلوج مساحات واسعة من المحافظة التي يدير مديرية الزراعة فيها . فكان يخرج للناس و كأنه أحد الآلهة السومرية ( إنليل ) .. وأنه هو من أحضر تلك الأمطار و الثلوج .. فكان يمط حرف الجر ليأخذ مساحة بيت شعر على البحر الطويل .. ليغنم أكبر وقت ممكن يتكلم فيه ..ويبشر المزارعين بموسم خير وفير و ينصح مربي المواشي بنصائح يعرفها راعي مبتدئ و مربي النحل ومربي الدجاج ، وكان يود لو أتيح له المجال ليقول للمشاهدين أي أنواع الطبخ تلاءم مثل تلك الأجواء ..

عندما جاء كتاب تقاعد الدكتور ، بذل قصارى جهده ليبقى في مكانه ، أو ينقل للجامعة العربية ، فإن له اثني وعشرون عاما خبرة كمدير عام ، لم يشأ أن يبقي أثره على التدني بمستوى الزراعة ببلاده بل أراد أن ينعم بها الأشقاء العرب ، لكن البطء في استصدار قرار تصديره عربيا ، قد عجل في موته ، فمات وقد يكون قد عرف عن أي شيء إلا الزراعة !
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس