عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-03-2010, 07:42 PM   #2
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

رؤية أولى (النص والدلالة الرمزية )



هذه القصة من أجمل ما كتب الشاعر مصطفى صادق الرافعي رحمه الله إذ هو قصيدة شعر أهديت لنا ولكن في شكل نثري ، ما أراني ذاهبًا في القول عنه أكثر مما ذهبت تكتب كلماته عنه حتى كأنه روح الكلمة لا ذاتها ، وما أراني كاتبًا ما كتبت إلا ارتجالاً ، وإني إذ أذهب لتقييم بعض ما جاء في هذا العمل الرائع فأنا لا أدعي لنفسي حظًا وافيًا وقسطًا كاملاً من العلم إلا بما أنعم الله عليّ وهو قول بشر يحتمل الصواب والخطأ .
وما أوردت هذا القول إلا لأن عملاً كذلك قد يعمّي على القارئ فينظر إليه نظرة من قال الشمس صفراء اللون شديدة الضوء بدلاً من نظرة ذي لب بصير ضارب العمق في معنى كل ما يرى يقول إن الشمس هي بسمة الجمال وإطلالته على الأرض . وإذ أذهب لتقييم هذا العمل فلا أدعي لنفسي هذه البصيرة النافذة ولا الرؤية الثاقبة وإنما هي بعض ما أفاء الله به علينا من قول قلت أنشره حتى لا يفهم القارئ قول هذا الكاتب الشاعري الروح فهمًا سطحيًا .
الرؤية الأولى : في الرمز والدلالة .
مخطئ قاصر الفهم من ظن أن كاتبنا قد قصد عربة اللقطاء في ذاتها وإنما طعّمها بمرامي الواقع الذي عاشه غير أنها أسهم امتدت إلى أبعد مما رمى فجاء تأويلها لكل عصر وعلى واقع الفرد والجماعات .
عربة اللقطاء .. لعلك أخي القارئ لاحظت ما يشير به إلى واقع السياسة وحقوق الإنسان آنئذ في قوله :
وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تــُمــَط ّ العربة فتسعهم ، ولكن يمكن أن يــُكبـــَسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثة أو الأربعة منهم حيّز اثنين . ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه ...؟
تلك العربة ما أحسبها إلا الوطن مصر ، هو وطن قد انزوى الناس فيه وصاروا مكبوسين ولا أحد إن تألم سيشكو لأبيه .
إنه الوطن تلكم العربة التي ما حملت إلا لقطاء هي ذلك الوطن الذي ما أخرج إلى الدنيا إلا مشردين قل هم مشردو الفكر مشردو الانتماء مشردو الأخلاق لكنهم في آخر الأمر مشردون . ومـــشــرِّ دون من بعدهم .
وانظر باركك الله لما تعنيه عربة من دلالة البطء ، فما قال حافلة وإنما هو معنى للبطء ابتغي به حال الوطن .
وما اكتفى صاحبنا بالرمزين (العربة للوطن واللقطاء للشعب ) بل امتد بالرموز إلى أبعد من ذلك ؛ فها هي تطل الأم والتي هي تزوير على الأم ما أراه قصد بها إلا وزراء الدولة ورجالاتها ممن أوكل إليهم أمر الإصلاح فكانوا تزويرًا عليه تلك الأم التي تعد الأطفال كما يُعـَد ُّ الدجاج ، تلك الأم التي لا تريد من عملها إلا أن يكون همّـــًا قد انزاح ولو اقتضى ذلك إتمامه على غير تمام ما أريد منه . إنهم الوزراء أو رجالات الحكم .


وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء ؛ وكلتاهما تزوير للأم على هؤلاء الأطفال ِ المساكين ؛ فلما سكنت العربة انحدرتْ منهما واحدة وقامت الأخرى تــُناولــُهــَا الصغار قائلة ً : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة .....إلى أن تم العدد وخلا قفص الدجاج من الدجاج ....!

بعد ذلك انظر إلى تمام الصورة واكتمال المشهد ، فما أراه أتقن شيئًا -حتى وإن لم يقصده - كما أتقن هذا العمل والتصوير إذ قال الكميت والأدهم . الخيلان هذان ما أراه قد قصد بهما إلا الموظفين من أبناء الدولة فـــهُم مضغوط عليهم من ساداتهم الدلة ممثلة في الملك والوراء(ا لعربة والأمّان المزورتان ) غير أنهم هم أنفسهم لهم مأرب في تفريغ العربة (المواطن) هؤلاء الموظفون(وكان للموظفين في ذلك العصر كلمة مسموعة ) ما كرهوا الشعب إلا لأنه عبء وضع على أكتافهم ممن هم أكبر منهم فصارت مصلحة الدولة-أقصد الحكومة- (العربة ) والحاكمين (الأمّان المزورتان) والموظفين (الخيل) كأنهم اتحدوا عليهم .. واعجبى من هذين الحصانين وقد خلقهما الله لكي يــُركبا وهما يتنفسان الصعداء أنْ أراحهما الله من هذا العبء .

وانظر إليه وقد أحسن القول والغمز قاصدًا الغزو الفكري :
جاءوا بهم ينظرون الطبيعة والبحر والشمس ، فغفل الصغار عن ذلك كله وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات ...المواطنون من أبناء دولتنا يأتون إلى الغرب فلا ينظروا إلى منجزات العلم والتقدم ولكن إلى حكام الغرب ومبادئهم فقط .. كأن الآباء قد قصد بهم آباء الفكر من علماء ومفكرين . فقد صارت مصر دولة مقفرة من وحكامها الصالحين حتى صار العربي أو المصري إذا نزل بأرض الغرب عميَ عما بها من علم وذهب إلى حكامهم ومبادئ الحكم فيهم .
الغرب صاروا أطفالاً لهم آباء وأمهات ونحن العرب لقطاء بين الأمم ما حكامنا ولا رجال الدولة فينا إلا تزاوير الحكم وتزاوير الأمر والنهي .

فلما طاف بي النوم طاف كل ذلك بي ، فرأيتني في موضعي ذاك ، وأبصرت العربة قد وقفت ، وتحاور الأدهم والكميت فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخــفــَتها التفتا معًا ، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان !
الحصانان يتكلمان .. الموظفون والعاملون ممن هم في طبقة أدنى من الوزراء ما إن خف العبء عنهما راحا يتكلمان .. انظر إلى دهائه رحمه الله فقد ترك الكلام دون تحديد لتتساءل أنت ما تراهما قائلــَين ؟
أغلب الظن أنهما يقولان لعن الله العربة وأهلها ومن عليها . إنها فئة الموظفين (وكانوا إذ ذاك غير ما هم عليه الآن ) يلس الطربوش َ أحدهما ويلبس البزة (البدلة) متفاخرًا بها أمام الناس وهو في حقيقة الأمر خادم كالخيل مربوط بالعربة وبأهواء من يركبون عليه (الأمان المزورتان) .انظر إلى الخيل وجماله وعنفوانه وهو أساس حركة العربة ، لكنه في النهاية مربوط كذلك العلماء والمثقفون والموظفون في المناصب المتوسطة.

هذان الخادمان في حقيقة الأمر ماذا يقولان ؟ لقد تحدث عن أحزان وهموم بعض الخدم للسلطة انظر الفكر يختبئ ويختلس النظر إلى الحاضر انظر إلى الذهنية المنبثة من قوله هذا فكأنه يقول : لو كان هذا حال الخيل فما بالك باللقطاء ؟!!
كأنه يقول بشكل غير مباشر : يا لسوء الأمر ويا لعجبى من شدة تسخير الحصانين فكيف بالأطفال اللقطاء .
وانظر إلى تسخيره الألوان حتى يطلي بها المعنى : الأدهم ذو اللون الأسود رمز للسخرة أما الكميت الأحمر فهو رمز للتحرر فكأنه يقول إن الحصانين يختلفان إن المثفين والعاملين بالدولة يختلفون عن بعضهم البعض لكنهم في نهاية الأمر مسخرون للحكومة ويعملون رغمًا عنهم بأهواء أهلها .

ثم انظر إلى حديثه على لسانيهما ، هذين يمثلان الإنسان المصري الموظف\ المثقف \ المصري
انظر :
العربة يجرها جوادان أحدهما أدهم (الأسْــوَد) والآخر كُمــَيت (الأحمر) . فلما وقفت لوى الأدهم عنقه والتفت ينظر : أيفرغون العربة أم يزيدون عليها ...؟ أما الكميت فحرك رأسه وعَلَك َ لجامه كأنه يقول لصاحبه : إن الفكر في تخفيف العبء الذي تجعله يجعله أثقل عليك مما هو ، إذ يضيف إليه الهم ّ ، والهم ّ أثقل ما حملت ْ نفس ٌ ، فما دمت في العمل فلا تتوهمنّ الراحة ، فإن هذا يـُوهـــــِن القوة ويــَخذُلُ النشاط ويجلب السأم ؛ وإنما روح العمل في الصبر وإنما روح الصبر العزم .

لقد تحدث على لسان الحصانين ولم يتحدث على لسان اللقطاء كأنه يقول إن اللقطاء ( الشعب ) ليس في مشهد القصة كما هو كذلك في واقع الحياة . كأنه يقول : انظر إليّ أنا الرافعي أين أكون من هذين الحصانين .كأنه يقول إن المثقف -في مثل حال مصر آنذاك - لابد أن يأخذ بعضًا من اللهو حتى إذا طاف به طائف الكدح حتى كاد يصرعه وجد فيما ادخره لنفسه حرزًا بإذن الله من الإنهاك )

ورآهم الأدهم ينزلون اللقطاء ، فاستخفه الطرب ، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته ، وكأنما يقول له : إنما هو النزوع إلى الحرية ، فإن لم تكن لك في ذاتها ، فلتكن لك في ذاتك ، وإذا تعذّرت اللذة عليك ، فاحتفظ بخيالها ، فإنه وُصــْلــَتـُك بها إلى أن تمكن وتتسهل ؛ ولا تجعلن ّ كل طباعك طباعًا عاملة كادحة ، وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياة كما تريدك ، وليكن لك طابع شاعر مع هذه الطباع العاملة ، فتكون لك الحياة كما تريدك و كما تريدها.
وتراه رحمه الله كأنما قد رجح كفة الكميت فكأنه يقول ليست الحياة كلها كدحًا ، بل إن عليك أن تنزع إلى الحرية وكأنه يئس من الشعب فلم يجعل له نصيبًا من الأمر . انظر كيف ذكرها(الحرية) صريحة يريد بها شيئًا غير أبعد مما جاء في سياق العمل الأدبي !


هكذا اكتسب العمل براعة غير عادية فهو يرمز في هذا الوقت للوطن من خلال العربة والمواطنين من خلال اللقطاء والموظفين من خلال الجوادين (ولعله بذكاء وعن قصد لم يقل الحمارين!)والحكام الخونة( الأمّان المزيفتان ) والغزو الفكري (الأبناء الذين لهم آباء وأمهات )
انظر إليه وقد جعل آخر ما يتحدث عنه كالواو في كلمة عمرو هؤلاء اللقطاء جعل لهم في نهاية المطاف سطرًا كأنه سطر في الاحتفالات واكبدي .. استتباب العجز عن مد الأيادي إليهم فــــهُم في عمله كذلك لهم آخر الأسطر وليست أسطره إلا بعبارات التوجع والألم وهذا أقصى ما يمكن أن يُعطى إليهم .
وانظر إليه رحمه الله فكأنما قرأ أفكاري وأنا أنقد ما كتب :
إن الدنيا شيء واحد في الواقع ؛ ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال دنيا وحدها

حقًا إنه العمل الواحد لكنه ثلاثي الأبعاد إن أنت كررت الطل فيه .
ختامًا رحم الله ابن طنطا (المحافظة التي ولد فيها رحمه الله )ولا أجد ما أقوله عنك وعن عملك إلا ما آثرت أن تأتي َ به من قول الشيخ محمد عبده رحمه الله : " لله ما أثمر أدبك ولله ما ضَـِمن َ لي قلبك ! لا أقارضك ثناء بثناء ،وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا للباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل والسلام .
لهذا العمل رؤية ثانية وثالثة بإذن الله بعد حين وأكتفي بك قارئي وقد أثقلت عليك بما تطيق وبما لا تطيق لا أرجو أن أكون تزويرًا على النقد ولا أن تكون مكبوسًا في عربة أفكاري النقدية التي تقبل الصواب والخطأ فإن أخطأت ُ فما إلا الخير أردت وتلك طبيعة الإنسان وإن أصبت فمن عند الله وحده وشاكر لك تحملي ما ينوء ظهرك بحمله .. ولي عودة أخرى غير أني آثرت أن أعلق على كلامه بمثل طريقته حتى لا أكون تزويرًا على جمال ما جاء به فأكون كمن وضع وردة اصطناعية بجوار وردة أصلية .. لي عودة أخرى بإذن الله وحتى هذا الحين أتركك في أمان الله وحفظه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار





آخر تعديل بواسطة المشرقي الإسلامي ، 12-03-2010 الساعة 03:43 AM.
المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس