عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-04-2010, 07:02 AM   #5
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

تابع لما قبله

(1)

إذن، النشاط التبشيري، واللغة الإنجليزية، والملامح الزنجية، والشعور بالتهميش، كلها عوامل أدت الى بلورة عامل الهوية الذي جعل النوبة أقرب ـ وجدانياً وعقلياً ـ الى الجنوب منها الى الشمال.

وفي تأكيد لأهمية الدين في بناء الهوية المشتركة، يرى الباحثون أن انتشار المسيحية بشكلها التقليدي المحلي (Verncular Christianity) أدى الى الانهيار التدريجي للحواجز الثقافية والعنصرية في هذه المناطق (الجنوب وجبال النوبة)، مما أدى الى توحيد الكثير من الجماعات على أساس ديني، فأصبحت هناك تجربة على أساس ديني ـ اثني (Ethncenteric Religious Identity).

لكن يعترف هؤلاء الباحثون أن في المدن الكبرى في الجنوب، خاصة في الإقليم الاستوائي، اعتمدت المراكز الحضرية المتعددة الإثنيات على لغة عربية محلية (عربية جوبا) لتوحيد العبادة بين الإثنيات. وقد استغلت الكنيسة الرومانية اللغة العربية لتسهيل العبادة الموحدة، وذلك للتغلب على مشكلة تعدد الهويات المسيحية في الجنوب.

ويرون أن الدين المسيحي زود الناس بالجنوب بالرؤية الاجتماعية والقيم الأخلاقية، وقد ذابت أو اندمجت التقاليد المحلية بالفكر المسيحي الذي هدد الثقافات العربية والإفريقية المحلية. وعملت المسيحية على تجديد وإعادة توجيه القيم والثقافات هناك، وفي الوقت الحاضر (يقدم مسيحيو السودان تجربة فريدة للكنيسة على مستوى العالم).

(2)

تشير الإحصائيات الى أن الحرب في جنوب السودان راح ضحيتها أكثر من مليوني سوداني، وقلّ ما توجد أسرة في الجنوب لم تفقد أحد أفرادها أو أحد أقاربها، بل إن هناك أُسراً لم يبقَ منها إلا فردٌ واحد. وترى الإنتلجنسيا الجنوبية أنه على الرغم من وجود المكوِّن الديني للحرب بصورة ثابتة، إلا أن عاملي الإثنية والعنصرية لا يمكن فصلهما عن المكون الديني، ذلك لأن المعاناة التي تعرض لها الجنوبيون المسيحيون قد أفرزت رباطاً قوياً بين الإثنية والدين.

كذلك هناك اعتقاد سائد بأن الإرساليات المسيحية التي تحالفت مع القوى الاستعمارية شكلت أدوات للإمبريالية الغربية، وعملت على تدمير المؤسسات المحلية. فقد لعبت الإرساليات والقوى الاستعمارية دوراً في إضعاف السلطة المحلية ونظام القيم السائد، كما أنها أسهمت في عملية الاستقطاب داخل الوطن.

لكن هناك من يقول إن البعثات التبشيرية لم تدخل جنوب السودان إلا في بداية القرن العشرين، وأنه لم يكد يصل الجيل الذي تعلم من الإرساليات الى سن الرشد إلا عند استقلال السودان. وبعد مضي عقد واحد من الاستقلال طردت الحكومة الجمعيات التبشيرية.

ومهما يكن من طول أو قصر فترة التعليم الأوروبي ـ عبر الإرساليات ـ فإنه ترك أثراً في الجنوب لا يمكن تجاهله على الأقل من خلال تشكيله لطبقة من المتعلمين والتمهيد لظهور نخبة وإنتلجنسيا جنوبية، التي ـ على قلتها ـ بلورت قضية الإقليم بصورة واضحة في العقود التالية؛ هذا بغض النظر عن الأسلوب العسكري الذي انبثق في الصراع مع الشمال.

(3)

كانت أول مغامرة للإرساليات في العصر الحديث في السودان تلك التي قامت بها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بعثتها الى وسط إفريقيا في منتصف القرن التاسع عشر، إذ أقامت لها محطات في جنوب السودان، واستمرت في عملها هذا بصورة منظمة لأقل من عقد. أما انتشارها في الشمال، فكان محصوراً وسط الشباب الجنوبيين من الذين تم تحريرهم من الرق واستقروا في الشمال. وفي نظر الجنوبيين أن تحررهم تلازم مع اعتناقهم المسيحية، وكأنه تحرر روحي من قوى الشر.

ومنذ البداية والى اليوم، يعتقد المسيحيون السودانيون أن الكنيسة تشكل ملاذاً آمناً من العدوان، بالمعنى الروحي والمادي. وبالتالي أصبح اعتناق المسيحية صنواً للتحرر من العبودية، وأصبحت المسيحية تشكل السلوى والعزاء من ماضي الرق وواقع الاضطهاد والتهميش. فالمسيحية تعني لهم الأمل والرجاء من الله، الذي يحول العبودية الى حرية والموت الى بعث.

وللدين المسيحي بعد ثقافي واجتماعي واضح عند الجنوبيين. فالترانيم والموسيقى في الكنيسة أعطت مساحةً وصوتاً للمفاهيم اللاهوتية المحلية. وأصبحت تشكل إطاراً حيوياً للتضامن والابتكار. كما أن استخدام اللغات المحلية أدى الى تعزيز الصلة بين الإثنية والهوية المسيحية.

وقد تكاملت الطقوس الدينية والترانيم الكنسية مع الأدب والفنون الإفريقية المحلية للجنوبيين، فوجدت طريقها الى وجدانهم لتشكل هوية جديدة أساسها الإثنية الإفريقية والمسيحية. ويرى الباحثون الجنوبيون أنه على عكس ما كان يُتوقع، فإن الكنائس سعت في سودان ما بعد الاستقلال الى حماية الهويات الإثنية.

(4)

تعتقد الإنتلجنسيا الجنوبية أن سياسة (فرق تسد) التي لها تاريخ طويل في السودان، والتي استخدمها الأوروبيون والعرب على حد سواء لتدمير المجتمعات الجنوبية وكسر مقاومتها، قد استخدمتها أيضاً حكومة جبهة الإنقاذ بصورة أشد تنظيماً وقسوة مست كل مستويات النظام الاجتماعي.

لقد شكلت حكومة الجبهة الإسلامية مليشيات مسلحة أحدثت بها الانقسام وسط الجنوبيين، ونشرت بينهم السلاح والفتنة. وقد وجدت هذه السياسات التربة الخصبة في المجتمع الجنوبي المنقسم أصلاً بالعصبية العرقية. ويرى البعض أن الجبهة الإسلامية تمارس التكتيكات نفسها في جبال النوبة، مثل التطهير العرقي، وتفكيك الأسرة، بعزل الزوج عن زوجته، وكذلك الأبناء، وإضعاف الترابط الديني والأسري والعشائري والقبلي تمهيداً لتدمير التماسك الاجتماعي وتذويب الهوية.

كذلك، مازال العقل والوجدان الجنوبي مشحوناً بمرارات الماضي. فبين الحين والآخر يردد الجنوبيون قصص تحطيم الكنائس منذ الستينيات من القرن الماضي، ويقولون أنه حتى في الخرطوم (تمت مصادرة الكثير من المباني الكنسية وتحويلها لصالح الجبهة الإسلامية. ولم تسلم حتى الكنائس المشيدة بمواد محلية في أطراف العاصمة ومعسكرات النازحين).

(5)

ترى النخبة الجنوبية في الاعتداء على الكنائس اعتداء على التماسك والنظام الاجتماعي والقيم الدينية. كذلك يشير الباحثون الى قصص الاختطاف والاعتقال والتعذيب والقتل التي يتعرض لها القساوسة وغيرهم من زعامات الشمال والجنوب. ورغم أن كل الحكومات السودانية كانت تقوم بتلك الممارسات، إلا أن الجبهة الإسلامية هي الأشد تنكيلاً. حيث تقوم الجبهة بخطف الأطفال وأسلمتهم وتحويلهم الى مقاتلين ضد أقوامهم.

أما حكومة الإنقاذ (الجبهة الإسلامية القومية)، فقد كانت تنفي باستمرار هذه التهم وتصفها بأنها ادعاءات لا أساس لها من الصحة، وتقدم الكثير من الأمثلة التي تفيد بأنها تعزز التعايش السلمي. ويبدو أن الاختلاف الديني لا يشكل مشكلة بين السودانيين، غير أن تسييس الدين هو الذي يفجر المشكلات والتوترات بين الطرفين، ويعمل على توليد الحساسيات وتعقيد المشكلة، بل وتدويلها.

(6)

من جانب آخر يرى الجنوبيون أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تفسر الدين تفسيراً ضيقاً. فهم يرون أن الجبهة الإسلامية قد حولت الحوار الديني الى قمع سياسي وعسكري، وأن هذا المسلك عزز تمحور الهوية الجنوبية حول الدين المسيحي، وهي العملية التي بدأت منذ أكثر من قرن، بل أن كثيراً من الجنوبيين يعتقدون في شرعية دينهم وأسبقيته على الإسلام في السودان، مشيرين الى وجوده وتواصله منذ قبل الإسلام متمثلاً في مملكة النوبة المسيحية، وأن المسيحية الآن تُبعث ويُعاد إحياء تُراثها.

لكن البحث يوصي بأن تترك النخب السياسية في الشمال والجنوب، العامل الديني لميكانيزمات المجتمع السوداني المتسامح. فليس هناك ما يثبت أن المسيحيين سعوا يوماً الى إجبار المسلمين على التحول الى المسيحية أو العكس. كما أن الدين الإسلامي، وعبر القرون، انتشر بالطرق السلمية ـ بالقدوة والثقافة والقيم الأخلاقية ـ عن طريق العرب الرُحل وحركة العلماء والتجار والطرق الصوفية، أكثر وأسرع مما انتشر بالفتوحات.

انتهى
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس