عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-09-2014, 10:35 PM   #12
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

في المُوَاطَنَة

قد يكون مصطلح المواطنة حديثاً نسبياً، ولكن الكلام عن المواطنة بما تحمله من معاني، كان قديماً جداً، فظهرت المطالبات الدينية السماوية بتكريم الإنسان، وتحريم دمه، وإعطائه حقوقه بغض النظر عن دينه وعرقه وغناه أو فقره.

تكلم اليونانيون والرومان والبوذيون والمسيحيون والمسلمون في موضوع المواطنة، حتى غدت وكأنها مطلب سماوي وأخلاقي، ولكن كان يتم التجاوز عليها حتى بدت وكأنها مطلب (مثالي) لا يتم تنفيذه بحذافيره، كما جاءت تلك المثالية في مؤلفات الفلاسفة (جمهورية أفلاطون) و(المدينة الفاضلة).

وبعد الثورة الفرنسية، تصاعد الحديث عن المواطنة، حتى أصبحت ركيزة أساسية في الدساتير والتشريعات القانونية الأخرى، كما أصبحت محاور أساسية وفرعية في المؤلفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة.

(1)


المواطنة ثقافة، كما هي نظام يتأسس على قوانين ضابطة للحقوق والواجبات. وحين يتفكك النظام وتختل القوانين الناظمة للعدالة، فإن ثقافة المواطنة لا تصمد كثيراً، إلا إذا واكبها واحتضنها مجتمع مدني ومؤسسات حاضنة تقوم بتحصينها وإعادة بنائها، وتلعب دور الرافعة التاريخية لها لإعادة بناء النظام من جديد على أسس العدالة.*1

في مسيرة البشرية، ومن خلال تطور مفهوم الدولة، إذ تحولت الدولة شيئاً فشيئاً من دولة الأفراد والرعية الى دولة المواطنين، ترافق مع هذا التطور، نمو لفكرة الديمقراطية، حتى غدت الديمقراطية والمواطنة وكأنهما وجهان لورقة نقدٍ واحدة، لا يجوز البيع والشراء بها دون الوجهين معاً..

تتشكل عضلة القلب لفكرة المواطنة من ثلاث ركائز: الحرية والعدالة والمساواة. ومن خلال هذا الثلاثي فإن إعادة تشكيل الوعي الإنساني في مواجهة الطغاة والفقر والجوع والمرض والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتمييز العنصري والثقافي، سيبقى في حالة تموضع ونمو مستمرين.

حقاً، هناك ديمقراطيات راسخة في العالم، ولكنها لا تلبي تغذية متطلبات ثالوث المواطنة (الحرية والعدالة والمساواة)، فبالرغم من أن شعار الثورة الفرنسية في عام 1789يحمل معاني الثالوث إلا أن المرأة لم يُسمح لها في التصويت أو الاقتراع إلا عام 1945، وكذلك يمكن القول عن التعامل مع السود في الولايات المتحدة، إذ مَرّ ما يقرب من مائتي سنة حتى تم الاعتراف بحقوقهم، فالمسألة، إذن ليست بالنصوص والديباجات بل بالممارسة والثقافة المؤمنة..

هناك ديمقراطية في الكيان الصهيوني، لكنها موسومة بالعنصرية، هناك ديمقراطية في لبنان ولكنها مقيدة بقصاصات طائفية ودينية، وهناك ديمقراطية في الولايات المتحدة ولكنها مفصلة حسب القدرات المالية ومصالح رأس المال.

(2)

ومن اشتقاقات المواطنة، وجذرها (وَطَن)، يبرز عندنا المكان الذي يُشكل الحدود الجغرافية والمساحة التي ينتمي لها المواطن، وهنا تبرز إشكاليتها في منطقتنا العربية، حيث تتوزع المفاهيم السياسية الأساسية، فالقوميون مثلاً، لا يعترفون بالحدود القطرية التي وضعها الاستعمار في اتفاقية سايكس ـ بيكو، ويبنون أيديولوجياتهم على حدودٍ يحلمون بها أن تكون من المحيط الى الخليج. والإسلاميون لا يعترفون بالحدود القطرية ولا بالأحلام القومية، فهم يتصورون وطناً لا حدود له، بل حدوده هي حدود دولة الخلافة، والشيوعيون والماركسيون لا يؤمنوا بكل ذلك لا بالحدود القطرية ولا القومية ولا الإسلامية. ويظهر الليبراليون وكأنهم أكثر الطوائف والمذاهب السياسية واقعيةً، فيتصرفون على أساس الحدود الراهنة.*2

إن هذه الإشكالية، تجعل مهام السياسي العربي أكثر تعقيداً من مهام السياسي في أي بقعة بالعالم، وتجعل الآخر من الفصائل الأخرى، وكأنه آخر لا يمكن التهادن معه، ولا يمكن التعايش معه، وتلك المسألة هي جذر المواطنة في كل أنحاء العالم.

(3)

من مظاهر المواطنة أن يقوم المواطن بالمشاركة بالأعمال التطوعية والثقافية، وتكييف سلوكه مع المعايير العامة للوطن، وأن يشعر بحب الوطن ويحترم المرأة ويتنافس عالمياً مع كل الحضارات ويحترم القوانين ويدفع الضرائب ويشترك بالانتخابات، وينتقد المخطئين في الدولة والمجتمع، ويحافظ على الممتلكات العامة، ويحترم الديانات والأعراق لكل من يشاركه في المواطنة، وأن لا يقدم أحداً على أحد بحجة تقاربه في الدين والقرابة والإقليم والعرق.. الخ

ولكي تتجلى تلك المظاهر عند المواطن، فعلى الوطن بقياداته السياسية والاقتصادية والثقافية أن يؤدي للمواطن (حقوقه) وأولها تعزيز حبه وولاءه لوطنه وليس لأشخاص وذلك من خلال بناء (الأنفة) وعدم الخضوع والخنوع للمتدخلين في شؤون الوطن، وكذلك تأمين العمل والصحة والتعليم والسكن، عندها يصبح الاحتكام للقوانين أكثر سلاسة وأكثر تطبيق، ويكون الانصياع للقوانين أكثر إذا أحس المواطن بالعدل والأمان، فسيدافع عن تلك القوانين لأنه أسهم في إيجادها من خلال فعاليته في الانتخابات والمناقشات التي رافقت ذلك، لكن عندما تنخفض نسبة المشاركة في الانتخابات، حتى لو كانت نزيهة 100% فإن ذلك يؤشر على وجود خلل في مسألة المواطنة.

(4)

لن يكون صادقاً في زعمه، من يرفع شعارات حب الوطن ويحابي مسئولاً كاذباً ومفسداً، ولن يكون سياسياً يُشار له بالبنان على صعيد المدينة والإقليم والوطن من شكك بوطنية كل الأحزاب وكل الشخصيات السياسية..

إن المسئول الحزبي الذي سيُكتب له أن يكون قائداً سياسياً في المستقبل، هو من يتدرب منذ نعومة أظافره على حب الوطن ومواطنيه، والتعامل مع كل الفرقاء في الفكر والدين على أنهم أناسٌ لهم الحق في الحياة كاملة كما يفترض لنفسه ذلك الحق، وعليه أن يطور مفهوم التعايش مع هؤلاء المواطنين، كما لو كانوا في مسئوليته، ويقبل أن يحكموه فيما لو آلت لهم الفرص في تبادل الأدوار (وهذا يتم ديمقراطياً) بالانتخابات وبناء المؤسسات التي تصون فكرة الديمقراطية وتطورها...

انتهى



هوامش
*1ـ انظر مثلاً كتاب عدنان السيد حسين رئيس الجامعة اللبنانية (المواطنة أسسها وأبعادها).
*2ـ انظر مقالة علي خليفة (دكتوراه في المواطنة والتربية من جامعة جنيف) تحت عنوان: المواطنة والدولة في الإسلام نشرها في مجلة المستقبل العربي عدد 427 أيلول/سبتمبر 2014 صفحة 56 وما بعدها.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس