عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-07-2009, 11:40 AM   #3
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

علاقة الموقف الفكري بالبناء الفني
(دراسة في قصيدة البحر والبركان لأحمد عبد المعطي حجازي)

البحر والبركان -أحمد عبد المعطي حجازي

شدوان !

صوت البحر يأتي من بعيد ،

وارتعاشات النجوم علي المياه

يتواثب اللمعان في نغم يشب ويختفي

ويرف طير لا نراه

يتوالد الزبد المفضض في سباق المد
،
ويتم مصباح الفنارة دورة أخري ،

ويبدأ من جديد

وصفير غليون يلوح من بعيد للجزيرة!
شدوان

مدينة طفت علي وجه الزمن
سكنتها وحدي

وهأنا أدفع من دمي الثمن

بيني وبينك كل هذا الليل يا أمي ،
وآماد الظهيرة

وضجيج آلات الرحيل

وتقاطع الطرقات ، لا ندري إلي أين المسيرة
بيني وبينك هذه المدن الكبيرة

وتفرس الأغراب فينا قبل أن يلقوا لنا إذن الدخول
بيني وبينك كل هذا الملح أيتها الحقول

ووجوه أبناء القري الأخري، القتيل

يمشون في آثارنا
متعممين بثوبه الدامي ونظرته الأخيرة

بيني وبينك كل هذا الحب يا أمي.

وكل دم العشيرة

كل الذي من أجله لذنا بستر الخوف أعواما مريرة

كل الذي ينهار في نفسي ،

فأدرك بعد ما طال الزمان

أني استطعت النوم ، أبعد ما أكون عن الأمان !

شدوان !

منفي ، وبندقيتي وطن !

شدوان !

منذ متي نفضت البحر عن صحرائك الغرقي ،

وآويت السفن !

ومن الذي أعطاك هذا الاسم .. ملاح شريد

أم خارج حمل السلاح علي المدن

إني أمد الطرف لا ألقي سواي ،

ولا أشم سوي الرياح

بكر سماء الفجر ، صوت البحر ، أنفاس المياه

والرمل مبتل ، وريح البحر مغسول ،

أضواء الفنارة

بكر ،

كأن الله منذ هنيهة خلق الحياة

بكر أنا !

أمشي علي أرض البكارة

أرض أنا فيها مواطنها السعيد

ومليكها الشاكي السلاح

بكر مواويل الجنود

تنساب من أحلامهم في الفجر ،

تصبح أوجها وقري صغيرة

وأليفة أشياؤهم في الرمل نائمة نثيرة

كانت بنادقهم معلقة علي أكتافهم

وهمو علي الخلجان يصطادون في ألق الصباح

وهمو عراة ، يغسلون ثيابهم

ويطاردون عقارب الشطآن في شمس الظهيرة

بكر صرير الكائنات وشدوها الجياش في الصمت الفريد

تتفتح الأصداف هذا الوقت ،

تلقي نفسها فوق الرمال

ينهل نور البدر أمطارا غزيرة

ويصيح صوت بالرجال

يحمر في فم حارس طرف اللفافة ،

يلمع النصل الحديد

في بندقيته، ويلمع جسم وحش القرش في البقع المنيرة!


شدوان !

هي الوطن !

يأتي المساء محملا بروائح الذكري ونشوتها القريره بوجوهنا الأولي ،

ونحن نغيب في الحلم القديم

ونظل ننشق عطره ، ونغط في أعماقه الخضر الوثيرة !

حتي تعود لنا محبتنا لأنفسنا ، ويضنينا تعطشنا الخطر

يأتي المساء ! فتعتم الآفاق من حول الجزيرة

تتكاثف الظلمات فوق البحر ضاربة علي الأرض الحصار

وكأنما كان النهار وأمنه وهما من الأوهام ، وانقشع النهار

تتوغل الجزر البعيدة في الظلام وترحل السفن الأخر

ونظل نحن ، كأنما جئنا ليكشف كل إنسان مصيره

يأتي المساء ! فيقطع الكلمات فيما بيننا

ويلف أوجهنا ظلام الليل ،

يوقد في السريرة

مصباحها الباكي فنعرق في توحدنا الحميم

يأتي المساء ! فيستحيل البحر وحشا هائجا ،

تتقذف الأمواج فوق وجوهنا ملحا وعشبا ميتا

وتشدنا هوج الرياح ،

وتمعن الأصوات بعدا والنجوم

يأتي المساء محملا بمخاوف الليل العدائي البهيم

نترقب الخطر المداهم من وراء الليل ،

نلمس في الظلام رفيفه المنسل ، فوق جلودنا

يتشبث الدم بالتراب ، وتنشب الأعضاء صورتها

علي صدر الحفر

يتزاوج الدم والوعورة

يتزاوج الدم والخطر !


شدوان !

البحر والبركان

والنجم بالنجم اقترن !

شدوان لاتفضي لأرض غيرها ،

والليل لا يفضي سوي لليل ،

والأعداء للأعداء، والبحر المحيط إلي سواه

فاحفر علي أرض الجزيرة بيت أمك ،

واحتمل ضرب الغزاة

أو لذ بأذيال الفرار فلن تصير إلي قرار

ستظل طول العمر تبحث في النهار عن الظلام ،

وفي الظلام عن النهار

عن مخبأ تخفي به آثار وجهك ،

لا تري إلا وحوش القرش والجثث الغفيرة

وتظل تنكر أنت نفسك خائفا ممن تحب ،

فأي محبوب تلوذ له بأذيال الفرار !

وهل عرفت الحب حقا ؟

ما الذي صنعته أيدينا لنعطي أمهات

وقري يعيث بها الطغاه ؟

لا !

نحن لم نعشق ، ولم نعرف سوي الحب الضرورة

والعيش والموت الضرورة

ننزو بلا شغف

كما تنزو الثعالب في البراري والأرانب في الحظيرة

وننام في أعضائنا المرضي الكسيرة

ونموت ، نسرق غفلة ، دون اختيار

فاثبت علي أرض الجزيرة

أثبت علي الأرض التي منحتك مملكة ، وجرب

لفظة الرفض النبيل

قل «لا» هنا ،

لتقولها في كل مملكة سواها

لتقولها في كل مملكة سواها

لتقولها يوم الحساب ، إذا أتي يوم الحساب

وعادت الأشلاء تسأل من رماها للكلاب

ومن اشتراها وافتداها !

الموت ؟

كنه أنت !

فهو فتي في مثل سنك يرتدي ذات الثياب

اخرج له موتا لموت ،

مَن مِنَ الموتين يغلب ؟ من يذود عن التراب

واذكر هنا موتاك ، واذكر وجه أمك ،

هل تري أحببتها يوما كما أحببتها في ساعة الموت

الوبيل

الموت فوق رؤوسنا ، والموت بين أكفنا ،

والموت يعصف بالرقاب

ونظل نحن نصيح في فرح جنوني به

لا ! لا سبيل إلي الجزيرة

والموت يسحب ظله عنا ، وينكشف الغبار عن الصباح؟

كان الطريق إليك يا أماه أن آتيك مطلول الجراح

كان الطريق إليك أن آتيك حاملا السلاح

كان الطريق إليك أن أغزو لك المدن الكبيرة

وأضمها لك ! للجزيرة !



ياهواي عليك يا محمد


إن كنت سليما حتي الآن

فاضرب !

اضرب ! يا ذا القلب النشوان

والوجه المتعب

انفض عن قلبك دهشته الأولي

وبراءته المستهولة الإنسان الغولا

وخض النيران


« يا هواي عليك يا محمد ( * )

يا هواي عليك ! »

ومحمد أقرب إخوتي لقلبي

وصديقي

ورفيق طريقي

كنا أخوين

فأصبحنا من بعد وفاة أبينا

طفلين وأبوين !

نتلاقي تحت غبار السعي بوجه صارم

فإذا أبنا لمراقدنا




أوحش كلا منا الآخر

حتي يتمني أن يلقاه ،

وقد فارقه من ساعة

وكأن الواحد منا إذ ترك أخاه ،

أضاعه

يستسلم كل منا لبكاء عذب مقهور

يغسلنا من آثام رجولتنا المثقلة بغير أوان

ويعيد لنا عهد صبانا الزاهي المبتور !

ومحمد أذكره طفلا غضبان جميلا

طفلا يلقي عالمه بطهارة قلب متلهب

يسأله أن يصبح بيتا مأهولا

أفقا مغسولا

يسألنا ألا ننساه

ألا نلقاه بوجه متقلب

يسألنا ألا .. نكذب !

في هذا العالم يا ولدي

في السوق المائج بالعجزة والجهلة

بالمقتولين وبالقتلة

نغرق في الكذب وفي التضليل

كي نحفظ مما بقي لنا .. هذا الرمقا

فأرفع يا ولدي أنت سلاح الحق ،

لكي تحمي هذا الخقا

أرنا الصدق المضطهد، وقد سلح نفسه

ومشي مدرعا

ممتطيا فرسه

بين هتافات المظلومين !

ومحمد ! أجمل ما أعطي الحب العاجز

ما بين الرغبة والحرمان

أشهد وجهه

ما بين الذكري والنسيان

أشهد وجهه

بين صباه ، وضياع صباه

أشهد وجهه

في الموسيقي أشهد وجهه

إذ يهرب أعذب ما فيها من ألحان

وتظل تحن تحن له الآذان

أشهد وجهه

في الأسرة، إذ يجتمع لها الشمل المفقود

في صبح العيد

ويشق تعاسة أوجهنا

هذا الفرح الباكي المولود

أشهد وجهه

في الليل الممتد السهران

يشرد فيه حتي يتعب

ويعود لنا

وهنالك شيء في عينيه

في شفتيه .. يتعذب

شيء ! لا أدري كيف تحمل فيه الكتمان

حتي وهو يغني ، ويحب ، ويشرب


فاضرب !

أفصح عن هذا الشيء الآن

استجمع أحزانك واضرب

استنهض قلبك في يدك .. وصوب


اضرب !

بخروجك ذات صباح مبتسما للديان

تسأله يوما مبتسما

وصديقا مبتسما

وفتاة تأخذها في حضن النيل المعشوشب

وتسري عنها الأحزان

فإذا بالغارة والعدوان !


فاضرب !

اضرب بصباك العطشان !

بأخوتنا

بطفولتنا المظلومة !

بأبينا المحتضر الأشيب !

بالدرب الصاعد من منزلنا


حتي الصفصاف الملتف علي وجه الترعة

حيث توضأنا في الظهر وصلينا

وغمسنا في الشمس الملتهبة في الماء

نشوتنا الأولي الخضراء الحمراء !


اضرب !

بتشردنا بين الطرق المسدودة

والأفكار المحمومة

بين الكتب الرائعة المرسومة

أطفالا ، وقلوبا ، وشموسا لا تغرب !


اضرب !

بتغربنا في المدن المتوحشة القذرة

نفقد فيها قريتنا وبراءتنا

حتي نتلاقي ، فنحس بسوأتنا

ونواريها ، بعيون خجلي معتذرة !


اضرب !

بوداعك إيانا . أمي وأنا تحت الشجرة

آخر ما في ذاكرتي عنك

الخوذة ، وثياب الحرب الصفراء

والوجه المستشهد !


« يا هواي عليك يا محمد !

يا هواي عليك يا محمد ! »
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس