عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-03-2010, 06:01 PM   #44
عصام الدين
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Dec 2000
المشاركات: 830
إفتراضي

قراءة في مشروعية: النقابية والعمالية والفقه الجديد

جمال البنا.. لن أعيش في جلباب أخي!

* حسام تمام


كان الزمان في الثلث الثاني من القرن العشرين، وكان نجم الشيخ حسن البنا لامعا يخلب الأبصار، وكان جمال البنا -الأخ الأصغر- شابا يافعا ما زال يتحسس أقدامه في الفضاء العام الذي ملأه شقيقه وشغل فيه الناس بجماعته -الإخوان المسلمين- الصاعدة إلى بؤرة الضوء والحدث.

لم يكن جمال قد حسم أمره، والشخص الذي يمكن أن يكونه ما بين السياسة والثقافة والدعوة أو حتى الخدمة الاجتماعية، وكان لافتا أن الشاب الموهوب والمثابر والمعاند لا يجد آذانا تصغي إليه وسط الضجيج الذي أثارته أفكار شقيقه وحركته، وبدا أنه ليس له مكان في هذا الصخب حتى داخل جماعة أخيه، وربما كان يزعجه ألا أحد يلتفت إلى ما يقوله إلا من زاوية ما يقوله أخوه الأكبر، بل إنه لا يُعرَف إلا مقترنا به رغم أن بعد المشرقين يفصلهما فكرا ومزاجا.

وربما وجد نفسه يعيش مأزق أبناء جيله الراغبين في الاستقلال والتحقق ذاتيا، والذين عبرت عنهم فيما بعد رواية إحسان عبد القدوس "لن أعيش في جلباب أبي" أديب ذلك الزمن الذي بدا معجبا هو الآخر بحسن البنا؛ فكان أن اختط جمال البنا لنفسه مسارا ومنهجا فكريا يصلح أن يلخصه عنوان رواية إحسان معدلا: "لن أعيش في جلباب أخي"!.

في الحركة العمالية والحرية النقابية

ربما كان هذا العنوان أفضل مفتاح لفهم شخصية جمال البنا وقراءة مساره ومنهجه الذي حكمه وتحكم به وقدم من خلاله مشروعين فكريين بالغي الأهمية، يمثل كل منهما خروجا على جلباب أخيه الشيخ حسن البنا، والذي تحكمت أطروحته الفكرية وإطاره الحركي (ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين بمدراسها الفكرية وتجلياتها التنظيمية) في المسار الإسلامي طوال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة.

كان أول ما خرج به جمال البنا عن جلباب أخيه (تنظيم الإخوان) الإطار التنظيمي الذي أحكم الشيخ حسن بناءه وأنفق عليه جهده الأكبر، وراهن عليه في قيادة حركته للنهضة الإسلامية، لم يجد الفتى نفسه في هذا التنظيم الضخم؛ إذ سرعان ما تبين له وهو المحلق في سماء الفكر أن ليس له مكان في تنظيم يغلب الحركي على الفكري، وتضيق فيه مساحة النقاش والجدل لمصلحة العمل والتنفيذ؛ فالجميع تروس في ماكينة عملاقة يقودها بمهارة واقتدار شخص وحيد هو المرشد المؤسس، والجميع سهل الانقياد بين يديه كالميت بين يدي مغسله (بوصف تلميذه المرحوم عمر التلمساني).

وعلى الفور ومن غير صدام مباشر بدأ جمال خروجا هادئا من جماعة أخيه، رافضا "شجر الإخوان الذي يطرح ثمارا لا أريدها"، واتجه يبحث عن إطار آخر، فتردد بين اختيارات شتى: حزب سياسي (حزب العمل الوطني الاجتماعي 1946)، جمعية اجتماعية (الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم).. بحسب الظروف والمتاح، وكانت كلها تناسب تطورات شاب صغير السن ولكن عالي الهمة.

الخروج عن الإطار التنظيمي كان لا بد أن يتبعه خروج آخر في مساحة الفعل؛ ففي حين ركز حسن البنا اهتمامه على البورجوازية المصرية بشرائحها المختلفة، وغلب على جمهور حركته الموظفون وطلاب الجامعات، مد شقيقه جمال بصره حيث غاب أخوه وحركته، فاختار لنفسه طبقة العمال ومجال العمل النقابي والعمالي الذي ظل محور مشروعه الفكري ما يقرب من نصف قرن، وهو مشروع كان الرائد الأول فيه بامتياز في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث إبداعا وتنظيرا وممارسة، فلم يسبقه مفكر إسلامي إلى هذا المجال، ولم يلحق به نظير؛ بحيث لم تعد تُذكر النقابات والعمال في الفكر الإسلامي إلا ويذكر معها جمال البنا.

كان جمال البنا صاحب أكبر إسهام للمكتبة العربية في مجال النقابية والعمال؛ ففاق ما قدمه للمكتبة العربية كل ما قدمته النخبة العمالية والنقابية المصرية والعربية والإسلامية كذلك مجتمعة؛ حيث زادت مؤلفاته فيها عن الثلاثين كتابا غطت كل مجالات النقابة والعمالية؛ فلم يترك منها جانبا إلا وقدم له معالجة مستقلة تأليفا أو ترجمة.

كتب جمال البنا وترجم في التاريخ النقابي المصري والعربي والعالمي، وفي التنظيم والبنيان النقابي، والحقوق النقابية، والمشكلات النقابية والثقافة العمالية، وكتب عن الحرية النقابية التي لم يكتب فيها مفكر عربي قبله، وعن العمل وله فيه كتابه المعروف "تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي"، كما كتب عن عقيدة وفلسفة الحركة النقابية وعلاقتها بالإسلام، محاولا التأسيس لمنطلق إسلامي، وفي كل ما سبق خاض البنا في تفصيلات وتفريعات تتجاوز التناول العام.

ويمكن القول بأن الرجل نجح -لأول مرة- في أن يدخل الإسلام كعقيدة للحركة النقابية والعمالية. فقبل جمال البنا كان هناك قصور في الفكر الإسلامي فيما يخص قضية العمل التي كان الاهتمام بها يكاد ينحصر في شرح ثلاثة أحاديث تحدثت عن العمل ولم تخرج عنها أو تستخلص منها نظرية، وهي: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"، و"هذه يد يحبها الله ورسوله"، و"ثلاثة أنا خصمهم... رجل ظلم أجيرا"، وكانت النقابة والعمالية في تصور الحركات الإسلامية المعاصرة أقرب إلى أعمال الشيطنة؛ منبوذة من كل الهيئات والمؤسسات الإسلامية الرسمية والشعبية؛ إما باعتبارها جزءا من الفكر والعقيدة الماركسية والشيوعية أو كقرين لتحريض الجماهير وبث روح الشغب فيها وتعطيل الإنتاج.

كان الحال كذلك إلى أن جاءت كتابات جمال البنا لتنفي تعارض النقابية مع الإسلام؛ بل وتؤكد حث الإسلام على النقابية ودعوته إليها باعتبار أن أساس الدعوة الإسلامية هو "العدل"، وجمهوره هو الجماهير المستعبدة (الأراذل) الذين هم جماهير العمال في عصرنا الحديث، وقدم قراءة عميقة للآية 282 من سورة البقرة (آية الدين) استخلص منها الأساس الإسلامي للنقابية وهو الاتفاقات الجماعية التي هي محور العمل النقابي في المجتمعات الحرة والتي لا تدار إلا بالنقابات العمالية. هذا من الناحية النظرية، أما التأصيل التاريخي للنقابية فقدمه من خلال دراسة تاريخية لما عرف في التاريخ الإسلامي بـ"الأصناف" التي كانت تمثل طوائف الحرف والمهن، وكانت ترتبط إما بشيخ الطريقة (ممثل المجتمع الأهلي) أو بالمحتسب (ممثل السلطة) فقدم البنا بذلك الأساس والتأصيل الشرعي والتاريخي للنقابة في الإسلام.

ونجح جمال البنا في أن يقدم مفهوما إسلاميا جديدا للعمل، أعلى فيه من منزلة العمل، وأعاد له اعتباره داخل منظومة الفكر الإسلامي الحديث كمصداق للإيمان في الدنيا ومعيار للثواب والعقاب في الآخرة، وذلك من خلال قراءة عصرية لعدد من الأحاديث والآيات، كما أعاد تعريف مفهوم العمل في صورة إسلامية ابتعد بها عن التعريف القانوني (كل من يعمل بأجر تحت إمرة صاحب العمل) والتعريف النقابي (كل من ينضم لنقابة)، كما تجاوز المفهوم البرولتياري والرأسمالي للعمل (المنتج أو المأجور)، وقدم مفهوما إسلاميا هو "العمل الصالح"، سواء أكان بأجر أو من دون أجر، تحت إمرة صاحب العمل أو حرا.. فأدخل تحت هذا التعريف الأعمال الخيرية والتطوعية والنشاطات الطلابية والدعوية بل وأعمال ربات البيوت، وهو ما سبق به الفكر العمالي العالمي الذي عاد في السنوات الأخيرة ليوسع من مفهوم العمل بالضبط كما دعا إليه جمال البنا، ولا يزيد عليه كثيرا.

وفي هذا السياق سعى لصياغة نظرية إسلامية متكاملة لعلاقات العمل تحل مأزق التعارض بين حقوق العمال وأصحاب العمل في المجتمعات الاشتراكية أو الرأسمالية (علاقات العمال بالإدارة).

ففي المجتمع الرأسمالي، حرية صاحب العمل (الرأسمالي) بلا حدود في إطار فلسفة السباق والمنافسة، وله أن يصنع بعمله ما يريد؛ وهو ما يجور على حقوق العمال. وفي المجتمع الاشتراكي الذي أممت فيه الدولة وسائل الإنتاج وسيطرت عليها بديلا عن الشعب (وعن الرأسماليين كذلك) صار العمال في مواجهة جهاز الدولة الذي يملك سلطة القمع؛ وهو ما جعل الصراع أكثر سوءا، خاصة مع غياب حرية تكوين النقابات التي كانت مكفولة في المجتمعات الرأسمالية، حتى إن بعض المجتمعات الاشتراكية طبقت دعوة تروتسكي إلى عسكرة العمل (أي تطبيق النظم المطبقة في الجيش على مجتمع العمال).

وقد قدم البنا حلا إسلاميا يمثل نظرية في إدارة علاقات العمل يعلي من قدر القيم الإيمانية المشتركة بين العمال وأصحاب العمل؛ بحيث تصبح حقوق العمال هي واجبات أصحاب العمل ( المعاملة الكريمة، والأجر العادل، والشورى في الإدارة...)، وتصبح حقوق أصحاب العمل هي واجبات للعمال (الأمانة، والإخلاص، والحفاظ على المواد الأولية ووسائل الإنتاج...)، وهو ما حل مأزق التعارض والتناقض بين طرفي العمل؛ بحيث يتوارى الحديث عن الصراع الطبقي وصراع المصالح.

أسس جمال البنا مدرسة عربية وإسلامية في الفكر العمالي والنقابي، وذلك من خلال عمله بالتدريس في معظم معاهد ومؤسسات العمال في العالم العربي ومشاركته في تأسيس عدد منها؛ فقد عمل خبيرا بمنظمة العمل العربية، وشارك في تأسيس معاهد الدراسات النقابية والعمالية في مصر والجزائر والعراق، وكذلك الجامعة العمالية في مصر، وشارك في صياغة مواد ودساتير عدد من المنظمات والنقابات العمالية العربية (النقابة الإسلامية العامة في الجزائر/ نقابة شركة طيران باكستان/ دستور منظمة العمل الدولية...)، ودرّس لمدة ثلاثين عاما في الجامعة العمالية؛ بحيث صار جميع وزراء العمل المصريين وجميع القيادات العمالية العربية الحالية من تلامذته.

وقد توج هذا كله بتأسيس الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل المنظمة العمالية الإسلامية الوحيدة في العالم (في جنيف 1981) ليقف رابعا في العالم مع الاتحاد العالمي للنقابات في براغ الذي يمثل الرؤية الاشتراكية، والاتحاد الدولي للنقابات الحرة في بروكسل الذي يمثل الرؤية الرأسمالية، والاتحاد المسيحي للعمل في لاهاي الذي أعيدت تسميته إلى الاتحاد العالمي للعمل.

وقد كان من نتائج ذلك إدخال العمال ضمن جماهير الصحوة الإسلامية؛ بل وجعلهم في طليعتها، وهو ما أحدث تحولا مهما؛ فبعد أن كان الاهتمام بالتجمعات العمالية قصرا على الفكر الشيوعي والماركسي وقوى اليسار صارت جمهورا مستهدفا للحركة الإسلامية بعد أن وجدت في الفكر الإسلامي ما يجذبها إليه، وقد تأثرت تجارب إسلامية بهذه الأفكار كما حدث في السودان والجزائر وباكستان... وقبلها إيران.

بين مشروعين

كانت مفارقة ألا يجد هذا الجهد الرائد لجمال البنا من يهتم به أو ينسج عليه؛ فقد كانت الساحة غارقة في الاستقطاب الإسلامي العلماني الذي يتعامل مع المشروعات الفكرية بطريقة الولاء والبراءة، ولم يكن مقبولا ألا يخرج المشروع الفكري ممهورا بختم أحد المعسكرين لكي يضمن تسويقه، إضافة إلى عيوب هيكلية أخرى تعاني منها التيارات الفكرية السائدة؛ فقد بدت الحركة الإسلامية -نتاج بذور أخيه- أكثر يمينية من أن تقبل بهذه الأفكار، فضلا عن أن تتبناها، ولم تكن التيارات العلمانية واليسارية بخاصة على استعداد بأن تهتم بمشروع فكري يمد جسور "الإسلامية" إلى المساحة التي ظلت حكرا خالصا عليها.

وعليه فقد ظل جمال البنا حينا من الدهر- السبعينيات والثمانينيات- غريبا بين فرقاء المشهد الفكري المتجه يمينا، والذي تتقاسمه سلطة تجاهد نفسها في التخلص من كل ما يذكرها بالعهد الاشتراكي ومخلفاته العمالية، ومؤسسة دينية تنافسها في اليمينية، وتتوجس خيفة من كل ما يشي بالشيوعية، وعلمانيين ليبراليين يخلو معجمهم من جنس هذه الكلمات.. ويسار يوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة.. وأخيرا حركة إسلامية تميل تدريجيا إلى المحافظة واليمينية وتفتقد مع الوقت النفس النضالي من أجل حقوق البسطاء والمهمشين، وهي فضلا عن ذلك حددت موقفها منها من قبل: ألا تلقي بالا بما يقول ويفعل!

شعر جمال البنا بأن مشروع النقابية والعمالية استنفد أغراضه، ويوشك أن يقضي أجله، وأن المنظومة الإسلامية الحاكمة -التي أحكم أخوه نسجها- هي المسئولة عن ذلك، وأنها لن تسمح لأفكاره بالبقاء، فضلا عن المراكمة عليها، فقرر أن ينازلها مباشرة، ويخلع عنه آخر ما تبقى من جلباب أخيه: السلفية!.
__________________

حسب الواجد إقرار الواحد له.. حسب العاشق تلميح المعشوق دلالا.. وأنا حسبي أني ولدتني كل نساء الأرض و أن امرأتي لا تلد..

آخر تعديل بواسطة المشرف العام ، 16-03-2010 الساعة 06:06 PM.
عصام الدين غير متصل   الرد مع إقتباس