عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-01-2011, 11:23 AM   #17
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل السادس: العدالة الاجتماعية

العدالة الاجتماعية من القيم الإنسانية الكبرى، وشدَّدَتْ عليها الثقافةُ العربية الإسلامية في العهد الوسيط. وهي أيضاً من أهداف النهضة ومن مقوِّماتها. فليس لمجتمعٍ أن ينهض من دون أن تكون العدالةُ الاجتماعية أساساً للنظامُ الاجتماعيُّ فيه. وهي كنايةٌ عن تكافؤ الفرص في توزيع الدَّخْل والثروة، ومقاومةِ كافة أشكال التفاوت الطبقيّ والفقر والتهميش، وتنميةِ علاقات التضامن والتكافل بين أبناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية مؤخراً في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي وأصبحت مطروحة لمجرد تصحيح أخطائه فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكناً للتمرد عليها، ولذلك فمن الأهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي إلى تراجع "العدالة الاجتماعية" والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا إلى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية.

وفي النظر إلى العدالة الاجتماعية من منظورِ المشروع النهضوي لابد من بنية ملائمة لملكية وسائل الإنتاج، ومنظومة سياسات يتعين اتباعها، والتفكير في آليات تسهل تجسيد العدالة الاجتماعية في الواقع العربي وتعززه.

1- ملكية وسائل الإنتاج في منظومة العدالة الاجتماعية:

لا يمكن للعدالة الاجتماعية، من منظورٍ نهضوي، أن تتحقَّق إلاّ إذا أعيد للدولة اعتبارُها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخُّلها الحاسم في وضع سقُوف لملكية وسائل وأدوات الإنتاج لاتصالِ ذلك – شديدَ اتصالٍ – بالعدالة في تلبية الحقوق الاجتماعية. ولقد أكد "ميثاق العمل الوطني" في مصر (1961، الفصل السابع):
"إن سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج ولا تلغي الملكية الخاصة، ولا تمس حق الإرث الشرعي المترتب عليها، وإنما يمكن الوصول إليها بطريقتيْن:
أولاهما: خلق قطاع عام وقادر يقود التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية.

وثانيتهما: وجود قطاع خاص يشارك في التنمية في إطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال".

وأضاف الميثاق: "يجب أن تكون الهياكل الرئيسية لعملية الإنتاج، كالسكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود ووسائل النقل البحريّ والبريّ والجويّ، وغيرها من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب" (أي القطاع العام).

وما زال كثيرٌ من معطيات هذه الرؤية النظرية صالحاً اليوم في أية محاولة لصوْغ مشروع عربي للعدالة الاجتماعية مع كل ما لحق العالمَ والمنطقة العربية من تحولات سياسية واقتصادية وتقانية. إذ ينبغي أن توضَع سقوفٌ للملكيات الزراعية والعقارية، وحدّ أقصى لتمركز رؤوس الأموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعاً لِتكوُّن مراكز احتكارية في الاقتصاد العربي. على أن يُطَبَّق هذا المبدأ بقدر عالٍ من المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية الخاصة للمشروعات الصّغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع مرور الزمن، وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية إلى ذلك.

وقد أدى النكوص عن هذه الرؤية فيما يسمى بالخصخصة إلى سلب الشعب حقوقه التي رعتها الملكية العامة وتقليص الموارد المخصصة لأغراض الخدمات الأساسية والمتاحة للإنفاق الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية، كما أفضى اللهث وراء الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تصاعد نسبة الملكية غير الوطنية على النحو الذي أضاف للعدالة الاجتماعية بعداً وطنياً وقومياً.

2- منظومة سياسات العدالة الاجتماعية:

إذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الإنتاج على النحو السابق بيانه يعد متطلباً أساسياً للعدالة الاجتماعية فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن بدون منظومة سياسات يقع في أساسها ما يلي:

أ- سياسات الإنتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات الثقافية وتسعيرها، وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف إمداد الجمهور بالسلع والخدمات الأساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات الغذائية الأساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والإسكان اللائق، والمواصلات العامة، والثقافة والترفيه.

ب- سياسات الأجور والأسعار:وتقوم أساساً على تأمين حق العيش الكريم على مقتضى مبدأ الخبز مع الكرامة ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق في أجر مناسب لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حداً أدنى للأجور يدفع عنها على الأقل غائلة التضخم، وبالمقابل لابد من سياسات للأسعار في مجال الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الأجور والأسعار، وبصفة خاصة لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حداً لممارسات التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. ولابد في هذا السياق من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من السلع الأساس للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل بأسعار تتناسب وقدرتها الشرائية.
ج- إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه، والواقع أن الفجوة في الدخول في الأقطار العربية قد تفاقمت إلى حدٍ بات يهدد الاستقرار الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى بالخصخصة، واستباحة المال العام في غيبة الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد.

ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عدداً من الإجراءات من أهمها:
- إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدورٍ هام في إعادة توزيع الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد أهميتها من تأثيرها في إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الأعظم من المواطنين.

- التدخل لتنظيم العلاقات الإيجارية بين المُلاَّك والمستأجرين بما يضمن تأمين حق السكن في إطار من العدالة والاستقرار للمستأجرين.

- توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي أو الجزئي بحسبانها من حقوق الإنسان الأساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان الاجتماعي بدورٍ هام في تأمين الإنسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل. ولذا، فإن شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من أهم عناصر منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الأساس المادي والمعنوي لمفهوم الأمان الاجتماعي والإنساني.

- إعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه إلى تقليص الفوارق بين الدخول والثروات في المجتمع العربي وإلى الحد من الفوارق الطبقية.

د- إحياء دور الحركة التعاونية – بشقَّيْها الإنتاجي والاستهلاكي – التي لعبت دوراً كبيراً في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين. وكذلك تنمية الشراكة مع قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدني. واعتماد مبدأ التفاوض بين الحكومة والقطاع الخاص بهدف إحاطة مصالح العاملين بمزيد من الحماية، وربما يمكن التفكير في تضمين تلك الشروط في قوانين الاستثمار.وتفعيل دور النقابات العمالية والمهنية والاتحادات النوعية مع ضمان تمثيلها في المؤسسات العامة ذات الصلة رعاية لمصالح الطبقات والفئات والجماعات التي تعبر عنها.

هـ- التأكيد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمان عدالة الفرص أمام المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك الاجتماعي على أساس عادل.

و- امتداد العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس النوع وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات، والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوناتها. وكذلك امتداد العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة بين أقاليم الدولة قطرية كانت أم قومية بما يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي .

3- بعض آليات لتعزيز العدالة الاجتماعية:

لا شك أن البنية المواتية لملكية وسائل الإنتاج ومنظومة السياسات المتكاملة التي أشير إليها سلفاً سوف تضمن توفير المقومات الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية على النحو الذي نبتغيه في المشروع النهضوي العربي، وثمة آليات تعزيزية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد منها:
أ- إحداث صناديق لمكافحة الفقر على الصعيديْن الوطني والقومي، وذلك لمنع إعادة إنتاج الفقر في الفئات والطبقات والمناطق الفقيرة.

ب- تفعيل دور "صناديق الزكاة" و"مؤسسة الوقففي ضوء ما أكدته الخبرة العربية الإسلامية بما يحقق درجة أكبر من الرعاية والتكامل بين المواطنين ويعزز دورهما في دورهما في مواجهة غائلة الحاجة.

* * *

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس