عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 18-01-2011, 11:08 AM   #12
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

2- في العلاقة بين القوميّ والقطري

لقد أثبَتت التجربة التاريخية أن الدولة القطرية (أو الدولة الوطنية) لا يمكن أن تزول من الوجود لمجرَّد أن معظمها نشأ نشأة غير شرعية كحصيلةٍ لفعل التجزئة، ولا لمجرد وجود إرادة وحدوية في زوالها. ذلك أن هذه الدولة نجحت – عبر أجيال ثلاثة – في بناء بعضٍ من شرعيتها (شرعية الأمر الواقع) التي تمدها اليوم بأسباب البقاء.خاصة في ظل تأييد القوى الدولية والداخلية المتضررة من المشروع الوحدوي العربي بما في ذلك العمل على منع أية أشكال وحدوية تتعارض مع مصالح تلك القوى. مثلما أثبتت التجربة أن خوف الدولة القطرية على نفسها من الزوال بعملية توحيدٍ قوميّ لا يزيدها إلا استنهاضاً لفاعلياتها الدفاعلية والانكفائية في وجه الفكرة القومية والمشروع الوحدوي. ثم إن الفكرة القومية التقليدية عن الوحدة العربية: الذاهبة إلى استهداف الدولة القطرية والمتطلعة إلى زوالها، لم تقدم شيئاً للمشروع التوحيدي ولا فتحت أفقاً أمام تحقيقه. ولقد آن الأوان لإعادة النظر في ذلك الموقف التقليدي من الدولة القطرية على قاعدةِ الاعتراف بها والمصالحة معها ككيانٍ واقعي، والانطلاق في العمل الوحدوي منها كخامة أو كمادة وليس على أنقاضها. مثلما آن الآوان للتسليم بقاعدة جديدة في المشروع القومي التوحيدي مقتضاها أن وحدة الكيان القطري (الوطني) مدخلٌ نحو الوحدة العربية وليس العكس.

إن المبدأ الذي يؤسس هذه الرؤية إلى مسألة الوحدة هو أنه كلَّما أحرزت الدولة القطرية (الوطنية) تقدُّماً في توحيد كيانها الوطني، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية، وفي توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وفي بناء أسس حياة ديمقراطية، وفي حفظ أمنها الوطني وتنمية قدراتها الدفاعية من أجل ذلك، توافرت لمشروع الوحدة العربية مقدماته التحتية الضرورية. ويرتبط بهذا القول بأنه كلما نجحت الدولة القطرية (الوطنية) في تحقيق الاندماج الاجتماعي الداخلي بين الجماعات المختلفة المكوِّنة للكيان، انفتحت الطريق أمام تحقيق الاندماج القومي. وفي الحالين، تشكل الدولة القطرية مختبر فكرة الوحدة وعيِّنَتَها التمثيلية التي تدُلُّ عليها سلباً أو إيجاباً.

وفي هذا السياق من الواضح أن الوحدة العربية تواجه الآن واحداً من أخطر تحدياتها والمتمثل في الخطر الداهم الذي يحدق بالوحدة الوطنية أو القطرية في عديد من الأقطار العربية سواء كان ذلك بسبب هشاشة بنية الدولة والمجتمع أو التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، ولذلك فإن النضال الوحدوي يتعين عليه في الظرف الراهن أن يعطي أولوية لتمتين الوحدة الوطنية أو القطرية في داخل كل دولة عربية دون أن يتعارض ذلك مع ضرورة التحرك السريع لدفع قضية الوحدة إلى صدارة اهتمامات الجيل العربي الراهن.

3- في المضمون الاجتماعي والديمقراطي للوحدة

لا تكون الوحدة هدفاً مطلوباً لدى الأمة إلا متى وجدت هذه مصلحتها فيها. فحين تكون الوحدة إطاراً لتحقيق السوق القومي، وتعظيم الثروة، وتحسين شروط المعيشة للمواطن، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية وكفالتها، وتحقيق المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الطبقات والفئات والمناطق، وتعزيز الأمن القومي...، تكون حينها قد قدَّمت جواباً عن معضلات المجتمع العربي، وتكرَّست هدفاً تناضل من أجله الأمة جمعاء.

وليس يعني ذلك أن الوحدة لا تقوم إلا إذا تلازمت مع الاشتراكية أو كانت ذات مضمون اشتراكيّ كما نُظِر إلى ذلك سابقاً. فالوحدة ليست مطلب الطبقات الاجتماعية الكادحة والمثقفين الثوريين فحسب، وإنما هي مطلب أغلب طبقات المجتمع. وقد تجد قوى الرأسمالية الوطنية مصلحتها فيها، بل قد تنهض بدورٍ رئيسٍ فيها على نحو ما فعلت في الأعمّ الأغلب من تجارب التوحيد القومي. كما قد تنطوي دولة الوحدة على دول ذات نظم اقتصادية–اجتماعية متباينة على مثال ما يقوم في الصين اليوم بعد استعادتها هونغ كونغ إلى الوطن الأم. ولذلك، ينبغي عدم إقامة رابطٍ تلازميّ مطلق بين الوحدة القومية كهدفٍ مشترك وجامع، وبين طبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي الذي هو حصيلةُ توازنِ القوى داخل المجتمع وموضوعُ منافسةٍ سياسية وطبقية فيه، على ألا يخل هذا بأي حال باعتبارات العدالة الاجتماعية باعتبارها ركناً أصيلاً من أركان المشروع النهضوي العربي.

لكن الوحدة التي نتطلع إليها –من منظورٍ نهضوي– لا يمكن إلا أن تقترن بالديمقراطية من وجهيْن: من حيث تقوم بواسطة الرضا الشعبي ومن خلال الاختيار الحُرّ الديمقراطي (عبر الاقتراع أو الاستفتاء)، فلا تأتي بصورة فوقية أو انقلابية أو من طريق الإلحاق القسريّ؛ ثم من حيث تنطوي في تكوينها على مضمون ديمقراطيّ تَقُومُ فيه المؤسسات الدستورية المنتخبة مقام الفرد/الزعيم، ويعبّر من خلالها المواطنون عن إرادتهم بحريّة، ويشاركون في صناعة القرار وفي الرقابة على أجهزة السلطة. إن الديمقراطية هي النظام الكفيل بتحقيق مبدإ المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية، بما يسمح بتحقيق الاندماج الاجتماعيّ والقوميّ وتنمية ولاء المواطنين للوطن الجامع وللكيان القومي. وهي، في الوقت عينِه، النظام الذي يؤمِّن إمكانية حلٍّ قوميّ لمسائل الاندماج لدى الجماعات الإثنية في الوطن العربي داخل دولة الوحدة.

4- في نمط بناء الوحدة

تقدِّمُ تجربةُ النضال من أجل الوحدة العربية، والمحاولات التي خيضت في سبيل ذلك، والمراجعات الفكرية التي جرت في إطار الفكر القومي حول جدليات العلاقة بين الوطنيّ (القطريّ) والقوميّ، درساً سياسيّاً غنيّاً في مسألة الوحدة العربية مَفَادُه أن إطارها الكياني والدستوريّ الأنسب لن يكون صيغة الدولة القومية الاندماجية، وإنما صيغة الدولة القومية الاتحادية. إن الدولة الاندماجية قد توحي بأنها تفترض إلغاءً كاملاً للكيانات القطرية. وهذه حالة لا تبدو شروطُها ممكنةً في الأفق، وقد لا يُقَيَّض لها النجاح أو البقاء إن قامت. أما الدولة الاتحادية، فتقوم من اجتماع الكيانات العربية القائمة وتراضيها على مؤسساتٍ اتحاديةٍ مشتركة تنتقل إليها السلطة الجامعة مع استمرار سلطاتها المحلية. وفي الأحوال كافة، لا بدَّ من أن يكون الإطار الاتحادي القوميّ محلَّ تراضٍ وتوافق بين الكيانات والقوى العربية كافة.


* * *


إن الرؤية النهضوية لهدف التوحيد القومي تضعنا أمام جملةٍ من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها أو القفز عليها، وهي:
- إن تحقيق الوحدة العربية ليس نتيجة حتمية تصل إليها الأمة العربية تلقائيّاً. وإنما هو رهنٌ بتوافُر إرادةٍ ومشروع سياسيٍّ يعملان من أجل ذلك، ويعبئان كافة الموارد والإمكانات التي تهيئ الشروط لذلك.

- إن تحقيق الوحدة العربية مشروع طويل الأمد يجري إنجازُه بالتدرُّج: خطوة خطوة وعن طريق التراكم. ويفترض ذلك أن يقع تَنَاوُلُ مسألة التوحيد القومي على مقتضى نظرة واقعية سياسية تتسلح بفكرة الممكن دون أن تتخلى عن فكرة الواجب.

- إن كافة المداخل إلى الوحدة ممكنة: الاقتصادية والسياسية والأمنية بحسب ما تفرضه الظروف والتطورات وديناميات العلاقات العربية – العربية. لكنها، في مطلق الأحوال، تحتاج إلى مدخل تعاونيّ عربيّ بَيْنيّ يؤسّس للترابط والتداخل بين البنى الإنتاجية والاقتصادية والأمنية والسياسية العربية ويطلق ديناميات التفاعل التراكميّ بينها.

- إن النظرة الواقعية إلى الوحدة تقوم على أساس التعدد في الوسائل والأساليب. إذ لا يوجد قانون واحد لمعالجة قضية كبرى مثل التوحيد القومي. وتعدُّد الوسائل والأساليب يعني التعامل مع معطيات الواقع حالةً حالة وابتداع الوسيلة المناسبة لكل حالة من دون أفكار مسبقة أو تعصُّبٍ أو تبسيط.

- إن الوحدة هدف للأمة: بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة. وهذه جميعُها القوى المدعوة إلى النهوض بعبء النضال من أجل تحقيق هذا الهدف، وليس لفريقٍ دون آخر الحق في احتكار هذه القضية أو استبعاد غيره تحت أي عنوان سياسيّ أو ايديولوجي.

- إن تحقيق الوحدة العربية يواجه مهمَّة ملحَّة هي حلّ المعضلات الموضوعية والذاتية التي تواجه ذلك التحقيق: معضلة التباين في درجة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الأقطار العربية التي ستصبح شريكاً في الوحدة؛ ومعضلة المؤسَّسيَّة الناجمة عن هشاشة فكرة المؤسسة في الوطن العربي وعن تضخم قوة الفرد على حساب المؤسسة؛ ومعضلة عدم التوازن في القوة (البشرية، الاقتصادية، العسكرية...) بين أطراف كبرى وأطراف صغرى عربية، والحاجة إلى حلّها بما يضمن حقوق كل طرف – خاصة الصغرى – في الشراكة الوحدوية؛ ومعضلة الخلاف بين الفصائل القومية وتشرذمها؛ ثم معضلة التدخل الخارجي المعيق، باستمرار، لمشروع التوحيد القومي.

- إن الاتحاد الفدرالي العربي لا يشترط انضمام جميع الأقطار العربية ابتداءً، بل يمكن أن يبدأ من اتحاد بعضها ممَّن أبدى جَهُوزيته للاتحاد أو توافرت فيه شروطه؛ على أن نجاح تجربة الاتحاد الجزئي، والفوائد المادية الناجمة عنه، سيكون – من دون شك – حافزاً للأقطار الأخرى للانضمام إليه أو محاكاته، وبقدر قوة المجموعة النواة ونجاح تجربتها الوحدوية سوف يمكن إقناع القوى الجديدة الراغبة في الانضمام إليها بتلبية المتطلبات السياسية والاقتصادية لهذا الانضمام.

وقد يصحّ أن يقال إن مشروع التوحيد القومي ممتنع عن التحقق دون أن يتوسّل بالوسائل الشعبية والديمقراطية نهجاً لتحقُّقه، وهذا صحيح ومرغوب، وإن لم يكن ذلك دائماً في حكم النواميس والقوانين التي جرت تجارب التوحيد القومي بمقتضاها في التاريخ الحديث والمعاصر. لكن الذي ليس يرقى إليه شك أن سائر الأهداف النهضوية العربية من تنمية، واستقلال، وعدالة، وأمن، وتقدّم... إلخ ممتنعة عن التحقيق، بل مستحيلة، دون توحيدٍ قوميّ.
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس