عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 19-07-2010, 02:20 AM   #60
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

الفصل التاسع والأربعون: الطريق الى الآخر يمر بالذات: نموذج من أعمال يوسف إدريس..

تقديم: محمد حافظ دياب .. أستاذ بجامعة بنها ـ مصر

( الصفحات 835ـ 848)

يتناول الباحث (محمد حافظ ذياب) قصتين للأديب الروائي المصري (يوسف إدريس)، الأولى: السيدة فينا كتبها عام 1959، والثانية نيويورك 80، وكتبها عام 1980.

أولاً: من فيينا الى نيويورك


في (السيدة فينا) يتناول يوسف إدريس، شخصية (درش) موظف حكومي مصري صغير، له زوجة وابن صغير يحبهما، أرسل مع وفد في مهمة رسمية الى أوروبا بضعة أيام. وهو مولع بالنساء، وصاحب خبرة ومغامرات في هذا المضمار، لكنها محصورة في نساء بلده.

صحيح أنه جاء الى أوروبا في مهمة رسمية، إلا أنه لم يكن لديه سوى مأرب واحد (أن يجرب المرأة الأوروبية) [فينا60/صفحة 77]. أما البعد الحضاري الكامن وراء تطلعه الجنسي، فثمة إشارات توعز به، من قبيل تحديده هدفه الخاص من الرحلة: (أن يغزو أوروبا المرأة ـ ص79).

كان للمرأة التي في باله، على أن لا تكون من فتيات الشوارع، إنما يريد اللقاء (مع سيدة أوروبية أصيلة ذات شخصية، تريده هو ولا تريد نقوده، وتعطيه نفسها بإرادتها ـ ص80)، إنه يطلب أكثر من اللقاء الجنسي، فبغيته هي معرفة (الآخر الأوروبي). وحين تموج الشوارع بالبحارة الأمريكيين، فهو لا يخشاهم كمنافسين، لأن هؤلاء يبحثون عن أوروبا العابثة، أما هو فيبحث عن أوروبا السيدة.

بعد محاولات فاشلة، ومع ليلته الأخيرة في فيينا ينجح (درش) في مسعاه المحموم، فيحصد ثمار الصبر والجسارة والبديهة والخبرة في المغازي النسائية، حين يجتذب الى دائرة سحره سيدة نمساوية جميلة ومحترمة، يلتقيها في الطريق عائدة الى دارها بعد يوم عمل طويل وسهرة في الأوبرا مع صديقاتها، ويتوجهان معاً الى هذه الدار.

للسيدة مثله أسرة من زوج وطفلين، إلا أن زوجها مسافر في رحلة عمل. يظل (درش) في حيرة من أمر هذه السيدة طيلة الفترة التي يقضيانها معاً. إنه غير واثق من أفضل سبل التعامل معها: (هذه المرأة تكاد تفجر عقله من الحيرة، لم يعد يدري إن كانت شيطاناً أم ملاكأً، ساذجة أم ماكرة، تضحك عليه أم هي معجبة به، وتحيره ابتسامتها التي لا معنى لها، وهزة كتفيها، التي قد تعني لا وأيضاً تعني نعم ـ ص 127 من الرواية).

تبدو هذه التفاصيل في ظاهرها محملة بصورة تلقائية بنبرة الشك وعدم الثقة التي تطبع العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب. وحين يضمها إليه ويقبلها للمرة الأولى، فإنها تتأوه قائلة: (ستكسر ظهري يا إفريقي ص 128). مخاطبة إياه بصفته الإثنية المخالفة لإثنيتها.

يمضي الباحث في ذكر تفاصيل الرواية، وكيف أن المرأة الغربية، هي الأخرى قد حلمت بالشرقي بسحره الذي كونته في خيالها، وكان (درش) يدرك تلك الخاصية عندها، فأراد لأن يرفع رأس الشرق وإفريقيا عالياً [ص 146].

يخلص الباحث الى أن أوهامنا، كما هي أوهام الغرب عنا، والتي ننتظر وينتظرون معنا في تطابقها مع الصورة التي كُوِنَت عن الآخر، هي ما تعيق اللقاء الحضاري بين الاتجاهين. يدلل الروائي على هذا الاستنتاج بأن درش بعد أن حصل ما أراد من تلك المرأة، أخذ يتجول في شقتها، فرأى أنها تنشر غسيلها في الحمام، كما تفعل زوجته، فيطرح سؤالاً ساذجاً: هذا هو الغرب؟ إنه يشبهنا، وأنه لا يمت بصلة للصورة التي كوناها، ثم يغمض عينيه ويتصور زوجته بوضع شوق وحنين!

نيويورك 80: بعد 21 سنة يعود يوسف إدريس ليتوارى وراء شخصية كاتب مصري ذهب الى نيويورك، ليلتقي مع سيدة أمريكية، ويفاجأ عندما تعرف عليها أنها ممن يسمونهم مومسات (هكذا عرفت نفسها ص 5)، ينزعج الكاتب من تقديم هذه المرأة الجميلة لنفسها على هذا الأساس (هذه التحفة معروضة للبيع ص 13 من الرواية).

تدرك المرأة ما يدور في خلده فتقول: (ولدت في غابة لم أصنعها، ولكنها كائنة وموجودة ـ ص 68). يدخل معها هازئا، في حوار حول الثمن الذي تتقاضاه، فتجيبه بأرقام مضبوطة، بحسب الوقت الذي عليها أن تقضيه. يتذكر القروش القليلة التي تتقاضاها فتيات الليل في القاهرة.

وعبر تواصل الحوار بينهما، يكتشف أنها حاملة لدرجة الدكتوراه وعالمة في النفس واختصاصية في علاج القصور الجنسي. وتظل تبرر له اتخاذها مهنة البغاء، لكنه يرفض ويقول لها: أنتِ في رأيي إنسانة محترفة، لا علاقة لها بالإحساس أو بالشعور أو حتى بالإنسانية. يتذكر لحظتها أنه كاتب وأنه لا بد أن يكون له رأي في هذه (المسألة) فيستدرك: (إني لمشمئز) من حضارة تصعد بسمو علمها الى القمر، ولا زالت تنحط بجسدها.

تعرض عليه أن تقضي الليلة معه (مجاناً) فيرفض (أنتِ قطعة متخلفة عقلياً، ألم تفهمي بعد أن المسألة الجسدية المحضة لا تعني أي متعة بالنسبة لإنسان مثلي؟). يعود الى الفندق، لكنها تتعقبه الى غرفته، وتعاود عرضها بأن تدفع له هي!، ويصمم على الرفض، فيكون حكمها عليه (وعلى الحضارة التي يمثلها استتباعاً) ليس بأهون أو أقل رفضاً من حكمه عليها، إذ تسمه بأنه ما زال (طفلاً عاطفياً ونفسياً).

تنتهي القصة والجدال بانهيار المرأة نتيجة رفضه المتكرر، ومن خلال مشهد صاخب وبنهاية مفتعلة بعيدة عن الإقناع!

ثانياً: التواصل والتمايز

أراد (يوسف إدريس) من قرائه أن ينظروا الى القصتين في سياق واحد، باعتبارهما تنويعتين للحن واحد. فقد تعمد أن ينشر قصة (فينا 60 مع نيويورك 80) ليوضح ما أراد قوله في رسالته.

حاول يوسف إدريس أن يكون منصفاً في تصويره طرفي المعادلة، وقد خلص الى نتيجة مفادها، أن تصوراتنا الزائفة أو المبالغ فيها عن حضارة ما أخرى، تنبع في العمق من تصور فهمنا لحضارتنا نحن، وإن اللقاء بين حضارتين يستوجب فهم ابن الحضارة لحضارته قبل أن يلتقي مع الآخر.

ثالثاً: الشعرية المتورطة

لسنا فقط، في القصتين، قبالة حالة من الالتباس الفكري، بل إننا كذلك بإزاء حالة من الالتباس التجنيسي الذي يبعدنا عن تعيين شكل الإبداع القصصي لهما. هل تراه الالتباس الفكري للكاتب، وقد انسحب على هوية العملين؟

كانت الورطة، مثلاً، تظهر في اختيار الأسماء، فالبطل في (نيويورك 80) اسمه (عوض) والبطلة اسمها (باميللا غراهام)، فعوض يشيع في التصور الشعبي في مصر وتتشظى حمولته ما بين التعويض عن موت سابقين والإيمان بما يأتي به الله، وكذلك البطلة فهي تعيد ذاكرة موروثة حضارياً.

ويتورط في اللغة فبين لغة فصحى مثل: (سادر في غيه) و (يُستضاع العمل) و(دلف الى جوارها)... الى لغة التخاطب الشعبي (أنت مكسح .. بدل أنت كسيح) وأنت (مجعلص ... بدل أنت سمين) و (يترازل على البنت .. بدل يثقل عليها) و (امرأة ستاتي ... بدل امرأة محافظة).

ويدرج الباحث هفوات ونقاط ارتجال يوسف إدريس، مع محاولته تغطيتها بكرنفالية!

رابعاً: فقه الرؤية المتحولة

حاول إدريس أن يأخذ منحى متطرف في النظرة الى الآخر. ورغم أن المسافة بين الروايتين بين 1959 و 1980، مليئة بالأحداث فقد كانت السمة البارزة أن يظهر فكر يوسف إدريس المتراجع من كونه (اشتراكي ديمقراطي 1959) الى معجب بالحضارة الأمريكية ومتهادن معها في (1980)..

لقد قارن الباحث ما ورد في الروايتين أو القصتين، مع بعض من مقالات نشرها إدريس في الأهرام، وحاكمه عليها ليستخلص اضطراب الرؤية.


__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس