عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 16-06-2010, 09:55 AM   #58
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

القسم السادس : عبر الحدود : آخر الأدب والفن

الفصل السابع والأربعون: صورة (الأخرى) في الرواية العربية: من نقد الآخر الى نقد الذات .. في أصوات سليمان فياض..

تقديم: جورج طرابيشي .. كاتب ومفكر عربي ..

الصفحات (797ـ 810)

(1)

من وجهة نظر سوسيولوجية صرفة تكاد مقولة (الآخر) تكون مقولة مؤسسة للرواية العربية، وهذا بمعنيين:

أولاً: من حيث نشأة الرواية وظهورها، بل حتى وتطورها، في الثقافة العربية كنوع أدبي طارئ ومستحدث ما كان مُقَيَّضا له أن يرى النور قبل صدمة اللقاء بالغرب. فالرواية، كنوع أدبي، تكاد تكون بالتعريف (فَن الآخر).

لم تكن الرواية معروفة كفن أدبي عند العرب، قبل رواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم عام 1933، وإن كان البعض يرى أن أول رواية عربية كانت (زينب) لمحمد حسين هيكل عام 1912.

ثانياً: من حيث البنية الروائية، وتحديداً ما يتمحور من هذه البنية حول (البطولة) بمعناها الروائي، فبقدر ما أن الرواية هي بالضرورة (رواية بطل)، فلنا أن نلاحظ أن ليس من قبيل الصدفة أيضاً أن يكون ل (الآخر)، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، دور كبير في (دور البطولة) في الرواية العربية.

فبدءاً من رواية توفيق الحكيم الثانية، عصفور من الشرق الصادرة عام 1938، اتجه فرعٌ أساسي من الرواية العربية نحو التعاطي الحصري مع ما سنسميه بإشكالية الأنثروبولوجيا الحضارية، أي إشكالية العلاقات ما بين الشرق والغرب بحسب تسمية أكثر كلاسيكية.

ويستعرض الكاتب (جورج طرابيشي) مجموعة من الروايات التي ينسحب عليها ما تقدم به، فيدرج (موسم الهجرة الى الشمال) للطيب صالح، و(الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، و(الساخن والبارد) لفتحي غانم، و (قصة حب مجوسية) لعبد الرحمن منيف، و (رصيف العذراء السوداء) لعبد السلام العجيلي، و(الربيع والخريف) لحنا مينة، ومؤخراً (زمن الأخطاء) لمحمد شكري.

ويقف الكاتب عند سمتين واضحتين في كل تلك الروايات: الأول هو تجسيد البطولة في (ذكر) من الشرق، والبطولة الثانوية لآخر (أنثى) من الغرب. والسمة الثانية أن الأول (البطل) شرقي، والآخر (غربي).

يشير الكاتب الى عقدة الشعور ب (الخِصاء الحضاري) من الشرقي تجاه الآخر الغربي (المتفوق) حضارياً، وكأنه يريد تأكيد مسألة (إيهام) الشرقي لنفسه بأنه لو نال من المرأة الغربية فقد نال من الغرب بأسره. وعلى هذا النحو تحولت (الرجولة) منسوبة الى الشرق الى سلاح، وتحولت (الأنوثة) منسوبة الى الغرب، الى جرح، وتحول فعل الحب الى فعل انتقام.

يتوقف الكاتب بشكل أكثر تفصيلاً عند شكل جديد من الروايات، هو رواية (أصوات) التي صدرت عام 1972لمؤلفها: سليمان فياض. ويرى في تلك الرواية أنها على خلاف الروايات السابقة، التي كان يذهب فيها الشرقي الى الغرب ليقابل الأنثى أو التابعة لبطولة الرواية هناك، ففي رواية (أصوات) تحضر البطلة الثانوية الى الشرق. والبطولة في روايته هي للفرنسية (سيمون) وليس لزوجها المغترب المصري (حامد البحيري) ومن ناحية أخرى تؤشر الرواية على بطولات ثانوية بطريقة مستحدثة، يشكل فيها كل بطلٍ آخره وِفق سياق مترابط. فترفض (سيمون) الوافدة من بلاد (الفرنجة) الخضوع لذكور القرية، من باب (التجنيس) وترفض الخضوع لنساء القرية من باب (التشييئ).

(2)

ولتقريب ما أراده الكاتب من وقوفه عند رواية (أصوات)، فاسمها آت من اختياره لسبعة أشخاص (أصوات) يكشفون فيها عن تقييمهم لحدث الرواية، هؤلاء الأشخاص السبعة يمثلون السلطة والمثقفين والنساء والعوام الخ.

و(سيمون) هي زوجة المغترب المصري (حامد البحيري) الذي هاجر الى فرنسا وأفلح في عمله الاقتصادي ليصبح ثرياً من أثرياء باريس بعد 30 سنة من إقامته فيها. و(حامد) هذا، يشده الحنين الى بلدته (الدراويش) فيبعث مالاً لأقاربه في القرية عن طريق أخيه (أحمد البحيري) لإنفاقها على القرية وعلى البيت الذي ستسكن فيه زوجته (سيمون) وقال في برقية له (إنكم سوف تحبونها كثيراً، وأنها سوف تحبكم بدورها، وبخاصة إذا كان مظهركم وسلوككم حسناً معاً)

وهذا المظهر هو ما سيحرص عليه (مأمور البندر) و(عمدة القرية) وأهلها، وأهل حامد البحيري على إعطائه الأولوية المطلقة. ولقد كانت أوامر المأمور لعمدة القرية ومن هم في إمرته واضحة قاطعة (بوجوب ظهور الدراويش بالمظهر اللائق أمام حامد، وبخاصة أمام زوجته سيمون الفرنسية، حتى نرفع رأس حامد أمام زوجته، ونرفع رأس الدراويش والناحية ومصر أمام الخواجات جميعاً، ممثلين في شخص الست سيمون).

ومثقف القرية، محمد بن المنسي، الذي تقف ثقافته عند عتبة الشهادة الثانوية [زمنية الرواية في الأربعينيات من القرن الماضي]، يصوغ بدوره إشكالية المظهر هذه بلغة أكثر تطوراً نظرياً وأكثر توكيداً على ما يمثله حدث قدوم (الآخر) من قطيعة مع المجرى الطبيعي لحياة القرية: (فجأة، وعلى غير موعد، اختل الكون في أعيننا وعقولنا. الشمس لم تزل تشرق، وتغرب أيضاً في موعدها ... كل شيء يحدث كما هو، كما كان. وكل شيء كان من قبل هذه المفاجأة التي انقضَّت على قريتنا من غير موعد، يبدو طبيعيا في أعيننا، ومألوفاً لعقولنا.) ويستمر المثقف في تدوين الفروق بين أمس القرية ويومها، فالأمس الذي كان يسكب في الأزقة والحارات مياه الغسيل والاستحمام محملة بذوب الصابون والعرق، جالبة في أثرها الذباب ومناقير البط والإوز والدجاج. الحمير تنهق والكلاب تنبح والبهائم تزعق طلبا للطعام .. الخ

أما العمدة، فتقترن النزعة النقدية لديه بنزعة عملية (قلت للجميع أنه لا بد أن تظهر الدراويش بالمظهر اللائق بها وبالديار المصرية. ووافقوني على ذلك. وأخذنا، طوال أسبوعين، في تهذيب حشائش القنوات، وترميم جسورها (فقد ترغب الست سيمون في أن تتمشى عليها في العصاري)، وردمنا البرك والمستنقعات... وعبدنا طرق الدراويش، وردمنا حفرها بطبقة جديدة..الخ)

وهناك (أحمد البحيري) وهو شقيق زوج الخواجاية .. تناوله الباحث، على أنه نموذج للمواطن الذي يدرك ما هو عليه قومه من تخلف، ولكنه لا يحرك ساكناً طالما أن هذا التخلف لا يراه أحدٌ غريب.

يذكر الروائي في روايته (أصوات) أن أهل الرأي في (دوار العمودية) لم ينسوا أثر الحملة الفرنسية قبل حوالي 150 سنة، وكيف أن الفرنسيين انتهكوا حرماتهم وعاشروا نسائهم (والعياذ بالله)، ويذكر أحد المتناقشين في هذا الموضوع أن أحد أجداده روى أنه قُتل من قرية الدراويش وما حولها على يد قوم سيمون 17 ألف نفس. لكن أحد الجالسين ينقل عن إمام المسجد بأن الثأر يسقط بعد مرور سبعة أجيال!

ويستغل أحد الحضور في دوار العمودية ليقدم نقداً ساخراً فيضحك ويقول: اكتشفنا ونحن نضحك سر بياض وجوه بناتنا ونسائنا وكثرة العيون الملونة بين أولادنا في الدراويش والنواحي المحيطة بنا، من (فارسكور حتى عزبة الفرج، ومن بورسعيد حتى الإسكندرية.

(3)

والواقع أن همّ معاداة الاستعمار يغلفه ويؤطره في (أصوات) هم أشمل منه وأعمق، هو الهم النهضوي. ومن دون الدخول في تحليلات نظرية لا تتحملها المقالة، فإن (أصوات) تقدم الهم النهضوي على الهم الآتي من الشعور بالأسى من الاستعمار.

يقدم صاحب الرواية عناصرها ليكشف نسيج مجتمع محلي والكيفية التي يتعامل فيها مع ما تحمله الرواية من (رمزية). فالعمدة والمأمور الممثلين للسلطة يمثلون الحرص الشديد على المظاهر الكاذبة. والمثقف يقع أخيراً في حب الوافدة (الفرنجية). وشقيق زوجها يعاف زوجته التي تخاطبه عند معاشرته لها أنها لا تريد معاشرة أرانب دون إحساس. فزوجها يكيف تصرفاته للفت انتباه زوجة أخيه الأجنبية. وزوجته تتعامل مع (سيمون) كآخر أنثوي من جنسية مختلفة لا بد التخلص منه.

سيمون التي وفدت، كانت تتحرك كالأطفال بحيويتها، وبنفس الوقت تحمل معها كبرياء حضارة بلدها، فلا تهتم بما يفكر به الرجال، ولا تهتم بما تحيكه لها النساء.

في اجتماع لنساء القرية: سيمون لا تتصرف كأنثى. سيمون تسيء السمعة لزوجها. سيمون ليست على ديننا. سيمون ليست نظيفة. سيمون لا تحلق شعرها الداخلي. سيمون غير مُطهرة. زوجها بماله يشتري مئة ألف امرأة أفضل منها.

في مشهد ثاني وأخير. تموت سيمون بين أيدي النسوة التي أوقعن بها. فحاولن ختانها. فماتت. بعضهم يعزي موتها لزيادة البنج، وبعضهم يقول ماتت من النزيف. وبعضهم قال أنها ماتت قهراً لأن نسوة مثل تلك النساء أجبرتها على عكس ما تمليه عليه حريتها!

__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس