عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-10-2008, 06:48 PM   #4
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي




وانساقَ (عصمت) وراءَ خيالِه، وهرَبَ على وجهِهِ من تلكَ الصورةِ التي يمشي فيها الجندي وراءَ ابنِ المدير، وتَغَلْغَلَ في

الأزِقةِ (توغل) لا يُبالي ما يعرفُهُ منها وما لا يعرفُه، إِذ كان يسيرُ في طرقٍ جديدةٍ على عينهِ كأنَما يَحلُمُ بها في مدينةٍ من مدنِ

النوم.

وأنتهى إلى كَبكَبَةٍ (جماعة) مِنَ الأطفالِ قدِ اَستجمعوا لشأنِهمُ الصبيانيّ، فانْتَبذَ (انزوى) ناحيةً ووقفَ يُصغي إليهم متهيّباَ أنْ

يُقدِمَ، فاَتَّصلَ بسمعِه ونظرِهِ كالجبان، وتسمَّعَ فإِذا خبيثٌ منهم يعلمُ الآخرَ كيف يضربُ إذا اعتدَى أو اعتُدِيَ عليه، فيقول له:

اضربْ اْينَما ضرَبت، من رأسِه، من وجهِه، منَ الْحُلقوم، من مَرَاق البطن، قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: فإذا مات فلا

تقُلْ إني أنا علَّمتُك...!

وسمع طفلاً يقول لصاحبه: أمَا قلتُ لك: إنه تعلَّمَ السرقةَ من رؤيتَهِ اللصوصَ في السيمإ؟ فأجابَهُ صاحبُه: وهل قال له أولئك

اللصوصُ الذين في السيّما كن لصا واعمل مثلَنا؟

وقام منهم شيطان فقال: يا أولادَ البلد، أنا المدير! تعالَوا وقولُوا لي: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادنا يُريدونَ الذهابَ إلى

المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أنْ ندفعَ لهم المصروفات.. “ فقالَ الأولادُ في صوب واحد: “يا سعادةَ الباشا، إِن أولادَنا يُريدونَ

الذهابَ إلى المدارس، ولكنا لا نستطيعُ أن ندفَعَ لهمُ المصروفات “ فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادِكم أحذيةَ وطرابيشَ

وثياباَ نظيفة، وأنا أدفعُ لهمُ المصروفات.

فنظرَ إليه خبيث منهم وقال: يا سعادةَ المدير، وأنت فلِماذا لم يشترِ لك أبوك حذاء؟

وقال طفلْ صغير: أنا ابنُك يا سعادةَ المدير، فأَرسلْني إلى المدرسةِ وقتَ الظهر فقَط...!



وكان (عصمت) يسمعُ ونفسُه تعتز بإحساسِها، كالورقةِ الخضراءِ عليها طَل الندى، وأخذَ قلبُه يتفتح في شعاعِ الكلامِ كالزهرةِ

في الشمس، وسَكِرَ بما يسكَرُ بهِ الأطفالُ حين تُقدمُ لهمُ الطبيعةُ مكانَ اللهوِ مُعَدا مهيَّا، كالحانةِ ليسَ فيها إلا أسبابُ السكرِ

والنَّشوة، وتمامُ لذتها أن الزمنَ فيها منسي، وأن العقلَ فيها مُهمَل..ْ.

وأحس ابنُ المديرِ أنَّ هذه الطبيعةَ حين ينطلقُ فيها جماعة الأطفالِ على سَجيّتهِم وسجيَّتِها - إنما هي المدرسةُ التي لا جُدرانَ

لها، وهي تربيةُ الوجودِ للطفلِ تربيةً تتناوَلُهُ من أدق أعصابهِ فتُبَددُ قواهُ ثم تجمعُها له أقوى ما كانت، وتُفْرِغُهُ منها ثم تملؤُهُ بما

هو أتمّ وأَزيدُ وبذلكَ تكسِبهُ نموَ نشاطِه، وتُعلّمُهُ كيف ينبعِثُ لتحقيقِ هذا النشاط، فتَهديهِ إلى أن يُبدعَ بنفسِه ولا ينتظرَ مَنْ يُبدعُ

له، وتجعلُ خُطاه دائماَ وراءَ أشياءَ جديدة، فتُسددُهُ من هذا كلهِ إلى سر الإبداع والابتكار، وتُلقيه العِلمَ الأعظمَ في هذه الحياة،

عِلمَ نَضْرةِ نفِسهِ وسرورِها ومرَحِها، وتطبعُه على المزاجِ المتطَلقِ المتهلّلِ المتفائل، وتَتدَفقُ به على دنياه كالفَيَضَانِ في النهر،

تفورُ الحياةُ فيهِ وتفورُ به، لا كأطفالِ المدارسِ الخامدينَ، تعرفُ للواحدِ منهم شكلَ الطفل وليسَ له وجودُهُ ولا عالَمُه، فيكونُ

المسكينُ في الحياةِ ولا يجدُها، ثم تراهُ طفلأَ صغيراً، وقد جمعوا له همومَ رجلِ كامل!

ودبت روحُ الأرضِ دبيبَها في (عصمت)، وأوحَت إلى قلبِه بأسرارِها، فأدركَ من شعورهِ أنَّ هؤلاءِ الأغمارَ (الجاهلين

الأغرار) الأغبياءَ مِنْ أولادِ الفقراءِ والمساكين، همُ السعداءُ بطفولتهِم، وأنه هو وأمثالُه همُ الفقراءُ والمساكِينُ في الطفولة، وأن

ذلك الجندي الذي يمشي وراءَه لتعظيمِه إنما هو سجن، وأن الألعابَ خيرٌ منَ العلوم، إِذْ كانت هي طِفْلِيةَ الطفلِ في وقتِها، أما

العلومُ فرُجولةٌ مُلزَقَة به قبلَ وقتِها تُوقرُه وتحوُلُهُ عن طباعِهِ، فتقتلُ فيهِ الطفولةَ وتهدمُ أساسَ الرجولة، فينشأُ بينَ ذلك لا إلى

هذه ولا إلى هذه، ويكونُ في الأولِ طفلاَ رجلا، ثم يكونُ في الاَخرِ رجلاً طفلاَ.

وأحس مِما رأى وسمَع أن مدرسةَ الطفلِ يجبُ أن تكونَ هي بيتَه الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخَ فيه صُراخَه الطبيعي،

ويتحركَ حركتَه الطبيعية، ولا يكونَ فيه مدرسون ولا طَلَبة، ولا حاملو العصِي منَ الضباط، بل حق البيتِ الواسعِ أنْ تكونَ

فيه الأبوةُ الواسعة، والأخوةُ التي تَنفسِحُ لِلمئات، فيمرُ الطفلُ المتعلمُ في نشأتِهِ من منزلٍ إلى منزلِ إلى منزل، على تدريجٍ في

التوسعِ شيئاَ فشيئأ، منَ البيت، إلى المدرسة، إلى العالم.



وكان (عصمت) يحلمُ بهذه الأحلامِ الفلسفية، وطفولتُهُ تَشِب وتسترجِل، ورَخاوتُه تشتد وتتماسكُ، وكانَتْ حركاتُ الأطفالِ كأنها

تُحركُهُ من داخِلِه، فهو منهم كالطفلِ في السيما حينَ يشهدُ المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثُب فيهِ الطفلُ

الطبيعيُّ بمرَحِهِ وعُنفُوانِه، وتتقلصُ عضَلاتُه، ويتكَشفُ جِلدُه، وتجتمعُ قوتُه، حتى كأنه سيُظاهرُ أحدَ الخصمينِ ويَلكمُ الآخرَ

فيُكَورُه ويصرعُه، ويفُضُ معركةَ الضربِ الحديدي بضربتِه اللينةِ الحريرية..!

فما لبثَ صاحبُنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذبَ أنِ اقتحم، وكأنما أقبلَ على روحِه الشارعُ والأطفالُ ولهوهُم وعبثُهم، إقبالَ

الجوّ على الطيرِ الحبيسِ المعلَّقِ في مسمارٍ إذا انفرجَ عنه القفص، واقبالَ الغابةِ على الوحشِ القَنَيصِ إذا وثبَ وثبةَ الحياةِ

فطارَ بها، وإقبالَ الفلاةِ على الظبِي الأسيرِ إذا ناوَصَ (رفع رأسه و تحرك للجري) فأفلَتَ مِنَ الحِبلة.

وتقدم فادغَمَ (انضم) في الجماعةِ وقال لهم: أنا ابنُ المدير.

يتبع

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس