عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-12-2008, 03:15 AM   #32
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

فإن لفظتي "الهشيم " و" الرياح " تذكراننا بقوله تعالى : " فأصْبَحَ هَشيمًا تَذْرُوه الرِيّاح" (107)؛ فالشاعر يخاطب الصقر الإلهي أن يترفق لأن روحه تتمزق، والله يريد أن يضرب مثلاً على ضعف الإنسان: أن نبات الأرض أصبح قشًا تذروه الرياح ، وهكذا حال الكافر.

وفي قول السيياب:

" يا للقبور كأن عاليها غدا سفلا

وغار إلى الظلام" (108).

نستوحي قوله تعالى: "فَجَعَلْنا عالِيها سافِلَها" (109)، ومن الملاحظ أن جملة السياب تشبيه يعبر فيه عن رهبة الموقف ، بينما آية القرآن تقرير ووصف حال .

وفي قول السياب:

" مصابيح لم يسرج الزيت فيها وتمسسه النار" (110).

استفادة من القرآن : "يَكادُ زَيْتُها يُضيء ولَوْ لَمْ تَمْسَسَهُ نار" (111).

والشاعر يقول:

"لو أودع الله إياها أمانته

لنالهن على استيداعها ندم" (112).

وهذا مضمون قرآني من الآية: "إِنَّا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرْضَ والجِبالَ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها" (113).

فالشاعر استعمل أداة الامتناع - بمعنى أن الندم سيحصل لو تم ذلك، بينما الآية تتحدث عن رفض الجبال أن تحمل الوديعة.

وترتبط كلمة "التنور" بالفيضان في قوله تعالى:

"حتّى إذا جاءَ أمْرُنا وفَار التّنّور قُلْنا احْمِل فيها مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْن" (114).

وإذا بها عند السياب مرتبطة كذلك:

" في قلبه تنور- النار فيه تطعم الجياع
والماء من جحيمه يفور

طوفانه يطهر الأرض من الشرور" (115).

وكلمة "التنور" لها أكثر من تفسير، لكن الغالب فيها أنه الموقد،وهذا لا يمنع الشاعر من ترديد كلمة "تنور" بالمعنى القروي "موقد" من غير أن يتقيد بالجو القرآني كقوله:
5- ألفاظ قرآنية بارزة:



ليس سبيلنا هنا أن نقف عند كل لفظة قرآنية، وإنما نقف عند بعضها، فكلمات مثل: آد، يدثر، اجتبى، وغيرها كثير نميزها على أنها وردت في القرآن ...وتذكرنا بآيات قرآنية.

وشاعرنا مولع باللفظة القرآنية كلفظة: "أزف" (117)، يقول الشاعر:

"لقد أزف الوعد" (118)

وكأنما أزف النشور" (119)

وهو يؤثرها على (حان) و (آن) و (جاء) وإضرابها لان "أزف" تخلق عنده الإحساس بالجزالة اللغوية، وكلمة "الوصيد" (120) تعني العتبة أو فناء الدار، فيقول الشاعر:

"رمت الرداء ونشرته على الوصيد" (121).

واستعمال حرف الجر "على" يقربنا من معنى آخر من معاني الوصيد وهو "نبات متقارب الأصول" (122) وليس هذا

المعنى بدعًا ، فمن العرب من ينشر ملابسه على النبات، غير أن متابعة دقيقة تؤكد لنا أنه عنى معنى

"الساحة" (123):

" عباس عاد من الترصد بالرجال على الوصيد"

"وما زال جمعنا في الوصيد" (124).

ويؤثر الشاعر كلمة "الرعاء" اعتبارًا للقافية وللاستعمال القرآني (125)، إذ أن الشاعر يقول:

"ومن كوة في خيام الرعاء" (126).

وفي قول الشاعر:

" ولا اختص في الصرصر اللاجئون" (127).

تسترعي انتباهنا كلمة "صرصر" الواردة في القرآن (128)، وترتبط كلمة "السموم" في شعر السياب بالريح:

"ريحها السموم (129)، رياح سموم" (130).

وتعني "السموم" الريح الحارة، فيقول تعالى: "عَذاب السّموم" (131)، "نار السَّموم" (132).

كما أن الشاعر في استعماله: " بأفنانك الناطفات المياه" (133) يعرف أصلاً أن (أغصان) تؤدي نفس المعنى، لكنه يفضل كلمة "أفنان" القرآنية (134)، وكذلك الأمر في استعمال الشاعر كلمة "الحرور" التي يؤثرها على الحر.

وكم تتردد كلمات من وحي القرآن في شعر الشاعر، ونسوق بعضًا مما ورد في معنى العذاب مثلا : لظى، سعير، سقر، رجوم، وغيرها (135)....





"استخلاص"



من خلال ما تقدم نستخلص ما يلي:

1- أن أثر القرآن بارز في كل المجموعات الشعرية على السواء، وتوفرها كثيرًا في ديوان "أنشودة المطر" يعود إلى حجم الديوان أولاً .

إذا تفحصنا التراكيب التي استفاد منها الشاعر واستعملها كما هي أو طورها فإننا نجد:

أ- أن بعض التركيب وارد في لغة الأدب الحديث ، كمثل قوله "قبس من نور"، "العيون الحور" الأمر الذي يجعلنا لا نبت في الحكم أنه أفادها مباشرة من القرآن، وهذا ينطبق أيضًا على استعمال المفعول المطلق، حيث أن هذا الأسلوب ليبس واردًا قصرًا على القرآن ، ولكن لا منأى من وضعها ضمن إطار الاستفادة من القرآن لأنه الأشيع والمتداول .

ب- أن الشاعر في تأثره بالقرآن أسلوبًا ومضمونًا وتراكيب لم يقتبس على الطريقة البلاغية القديمة في الاقتباس – وذلك ، كأن ينقل الآية أو جزءًا منها كقول ابن الرومي:

" لقد أنزلت حاجاتي بواد غير ذي زرع" (136).

بل هو يستفيد من القرآن وأساليبه ، ويطور هذه الاستفادة بعد هضمها باتجاه الآية ، أو بمعنى مخالف مغاير للأصل.

ج- أن اغلب الاستعمالات التي اشرنا إليها في شعر السياب ترد بمعنى العذاب كقوله:

"وحق العذاب" (137) ، "ستنصب نار" (138).



مدخل إلى استفادة السياب من شعر السابقين :


لا شك أن كل شاعر في مطلع كتابته يترسم خُـطا سابقيه، والسياب- الذي أشار إليه النقاد بأنه تأثر بأبي تمام والمتنبي وغيرهما- (139) أكثر من استعمال القاموس الشعري القديم، وأعلى صوت الموروث الشعري وأدخله في عشرات الأبنية، فكان من أكثر الشعراء المحدثين اقترابًا من روح الشعر القديم، وكان من أبرز من حوّم حوله رصانته وجزالته (140) ، وهو بهذا أحيا الكثير من الكلمات القديمة، إذ أن استعماله – مثلاً - صدر بيت قديم:

"ناحت مطوقة بباب الطاق" (ص717)- على سبيل المثال- فإنه يحيي كلمة "مطوقة"، بالإضافة إلى أنه يعمق المعنى، ونحن نحس ألم الشاعر -العراقي- من خلال هذا التضمين ، ومن خلال تذكرنا البيت القديم:

"ناحت مطوقة بباب الطاق

فجرت سوابق دمعي المهراق"

والشاعر الحديث عندما يضمن شعره فإنه:

- يثري التجربة ويعمق المعنى.

- يحيي بعض الكلمات القديمة.

- يؤكد أهمية التراث اللغوي، وهذا من شأنه – بالتالي - أن يحفز القارئ على تقبل التراكيب الجديدة (141).

ويلاحظ الدارس أن الشاعر ساق الكثير من هذه الآيات في سياق تشاؤمه وألمه.

وقد حاولنا تصنيف نوعية هذا التأثر، وسجلنا الظاهرة الفريدة كدلالة على الاستفادة، ففي الأسلوب لا نستطيع الحصر مهما أوتينا، وفي التراكيب سجلنا ما تكرر عند الشاعر من غير أن نبحث كيفية وقوع التركيب هنا وهناك إلا ما يقتضي ذلك، فمن التركيب ما بقي على حالة الأول، ومنه ما تغيرت دلالته .

وقد استعمل السياب التضمين ، وأخذ يرصع به شعره ، وتناول بعض العبارات الشعرية وطورها توسعًا في المعنى أو اعتراضًا له، وفي الحالتين فإن التأثر واقع، فيه تذكير وإثارة، وفيه قدرة الشاعر على نقل التراث بصورة جديدة.

السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس