عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 30-05-2008, 12:59 PM   #18
السيد عبد الرازق
عضو مميز
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 3,296
إفتراضي

[FRAME="11 70"]بسم الله الرحمن الرحيم

ثقافة الإلحاح

منذ نعومة أظفارنا وبمجرد أن يبدأ الوعي فى الجلوس على عرشه العقلي حتى نتعرض لعمليات غسيل مخ يومية مختلفة مهما كان حرص الأسرة على إحاطتنا بتربية سوية بعيدة عن كل السقطات المجتمعية والاستيرادات الغربية لأسوأ ما فى حضارته ..ورغم أن هذه العمليات كانت محدودة بعض الشيء لجيلنا لكننا لا نستطيع إنكار أننا وربما أهلينا ..استسلمنا فى بعض الأحيان لهذه القوى المسيطرة الإعلامية المحدودة والتى كانت تعرفنا بمفردات حياتية جديدة ومعطيات عديدة لم تكن تناسب طبيعتنا فى بداية بثها ونفثها لكنها –وياللعجب-استطاعت بطريقة ما أن تتغلغل فى تحركاتنا وطريقة تفكيرنا وتفاعلاتنا المستمرة لتصبح جزءاً لا يتجزأ منها وكأنها لم تكن يوماً غريبة علينا..

وإذا كان هذا قد حدث بصورة محدودة فى جيلنا ..فاليوم اتسعت تلك العمليات التحويلية التى باتت أدواتها ووسائلها وأسلحتها لانهائية العدد ووالعدة والعتاد ..وإذا كانت طبيعة زمننا ومحدودية التقنية الاتصالية والتواصلية آنذاك مع انتباه أهلينا لتوجهاتنا واتجاهاتنا قد قننت استسلامنا للبرمجة التى يمارسها الآخر على عقولنا بلا توقف..فأجيال اليوم بالذات -وربما نحن معهم -تعاني أشد المعاناة من أجل أن تظل هويتها متميزة وانتماءاتها التى اختارتها بيدها مترسخة..هذا إن كانت الفئة التى تتعرض لتلك البرمجة واعية متيقظة تعرف من هى وماذا تريد وماهدفها..بيد أن هناك فئات أخرى لا تشعر بهذا ولذا فقد استسلمت طواعية لمبرمجيها دون قيد أو شرط وهى منبهرة مأخوذة بفكرهم وتوجهاتهم وبما يقدمونه من فراديس زائفة وأحلام متفلسفة يحسبها الظمآن ماءاً وهى لا تعدو أن تكون سراباً واهماً موهماً..وعليه فقد سلموها إلى جحيم الضياع والاتباع ..لكن الاتباع هنا لا يوصل إلى القمة إلا بشروط خاصة جداً فى حالات غاية فى المحدودية ..أما الأصل فهو السقوط للهاوية.

بيد أن ماشغلنى بحق هو كيفية تلك البرمجة التى نتعرض لها يومياً عبر الوسائل الإعلامية والإعلانية والتعليمية ..وقد توصلت-وربما لست الأولى فى ذلك-بأن سر ما أبحث عنه هو سياسة التكرار والإلحاح..فلقد اهتدت الأجهزة التأثيرية المختلفة إلى أن كل شىء وأى شىء يمكن تقبله أو على الأقل السكوت عن أخطائه بالتكرار والإلحاح ..فالأخلاقيات المتفسخة والتى تروج للعلاقات غير الشرعية أو فك عرى الأسر وإعلاء الخيانة على حساب الفضيلة قد انقلبت بفعل التكرار والإلحاح السينمائي والدرامي إلى دفاع عن الحب والحرية غير المحدودة ..والمعطيات الدينية المتمثلة فى العقيدة و الحرام والحلال قد حولتها الأيدى العابثة إلى قيود تخنق الإنسانية وتجثم على صدر إبداعها الخلاق فتسجنها فى باستيل أو جوانتانامو -حسب لغة العصر الحديث-من الأفق الضيق والفكر المحدود..وأمريكا نفسها استخدمت نفس الأسلوب إبان حربها الباردة مع روسيا وتدخلها العسكرى فى فيتنام وإقناع الكثيرين بحقائق مقلوبة عن طريق الأفلام والمسلسلات التى صورت الأمريكان ملائكة ممتدة الأجنحة تريد إرساء الأمن والسلام والديموقراطية فى مجتمعات متوحشة لا علاقة لها بالحضارة ولا تفهم ألف باء المدنية والحرية..والفن الهابط الساقط أو على الأقل غير المبدع المؤطر فى التحفيز المستفز للتصفيق والرقص الفردي والجماعي والذى جعل الفن أشبه بالملاهي الليلية وبيوت الهوى والرذيلة..أصبح هو القاعدة..وليل نهار تسمع أصواتاً لاتمت للجمال بصلة وكلمات يندى لها الجبين ..لكنها مع الإلحاح تدخل المتلقي إلى حالة من التنويم المغناطيسي أو الإيحائي المستمر والذى يجد الإنسان بعد هنيهة نفسه يتصرف بطريقة انقيادية ويردد مايمليه عليه أو يوحي به إليه المنوّم دون أن يكون له-للمتأثر- إرادة حرة قوية تحرره من الخيوط العنكبية التى تكبل أيامه وأحلامه وتملي عليه حتى ميوله..

المشكلة أننا دخلنا فى مرحلة جديدة..فاليوم بدأ الفن يؤجج للشذوذ ويعود الناس عليه تدريجياً وبعد أن كنا نراه كإيحاءات فى الأفلام الأجنبية أصبح التعاطي معه واقعاً فى الدراما العربية..وتزايد التنفير من الدعاة ومما ينتمي إلى الدين بإبراز سقطاتهم وخلافاتهم الشخصية والتنافسية التى تنتمي إلى الحرص على الدنيا فى بعض الأحيان..والأحدث على الإطلاق هو تكرار إهانة الصحابة بدعوى أنهم بشر عاديين لايصح أن ننزه أفعالهم أو نخرجهم من دائرة النقاش بل على العكس من ذلك..علينا فضحهم ونزع بردة تميزهم وتعرية أفعالهم وتفاعلاتهم بل وسبهم إذا استلزم الأمر ذلك..لأن-كما يقال-عصر الشفافية قد حل ولايجب علينا دفن رؤوسنا فى الرمال كالنعامة..وبالرغم من أنه ثبت أن النعامة لا تفعل ذلك..وبالرغم من أننا لسنا ضد البحث العلمي أو الحوار المنهجي حول أى من حوادث السيرة النبوية والصحابية..إلا أننا لا نتفق بالكلية مع الهبوط فى الحديث عن الصحابة أو الدعاة أو الدين ككل بلا تقنين أو تخصص ودراسة..لأن هذا الأمر الذى بدأ قبلاً وجعل من ليس لديهم خلفيات علمية أو ثقافية ينساقون وراءه ..أفضى إلى أمر أشد وطأة وهو الولوج فى أتون النيل من الذات الإلهية والأنبياء والملائكة..إضافة إلى تكرار بل والإلحاح فى مشاهد وصوتيات النيل من الإسلام والمسلمين خاصة والعرب عامة ..والسخرية من والاستهزاء بكل مايخصهم ابتداءاً من قرآنهم ولغتهم وأرضهم وحتى لباسهم وأسمائهم وعاداتهم وتقاليدهم..هذا الإلحاح الاستهزائي من شأنه أن يرسي ثقافة الدونية والإهانة...والذى يحول العزة إلى ذلة والثقة إلى انكسار وانقياد إلى السيد الجديد الذى تسبب فى إهانته حتى لا يمعن فيها..ويزيد من وطأتها..

أعتقد أننا فى عصر الإلحاح الإعلامي والإعلام الإلحاحى وهو الذى أصبح يوجه السواد إلى مايريد فى الوقت الذى يريد إذا كان يمتلك أدواته بشكل جيد..ودورنا كمثقفين واعين أن نكسر الدائرة المغلقة التى تغلقها ثقافة التكرار على فكر وخيال وإبداع المجتمع ودفعه فى اتجاه آخر من التجديد والتمسك بالهوية والتعود على نبذ الاستسلام للإلحاح مهما اشتد والتكرار مهما احتد ..والارتقاء بالفكر الإعلامي إلى المصداقية والشفافية التى تحترم نفسها أولاً ومن ثم السبب الأساس فى تواجدها وهو الجماهير..
[/FRAME]
السيد عبد الرازق غير متصل   الرد مع إقتباس