عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-10-2010, 08:52 PM   #1
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي الماضي في نداء الحاضر (قصيدة لوحة سيريالية والفنان مبتدئ)

بسم الله الرحمن الرحيم

قصيدة لوحة سيريالية والفنان مبتدئ للشاعر سيد يوسف أحمد
في ديوان أنا أيضًا لا أمنع فمي للشاعر المصري سيد يوسف أحمد يتحول الشاعر في إحدى قصائده محور العمل الأدبي إلى مخاطبة الواقع من خلال استرجاع النمط التقليدي الشائع في سرد حكايا الأبطال والشهداء استرجاعًا يحوي في ثناياه على قيمة الرؤية كمحرك للعمل الأدبي وصانع للرسالة التي ينشد إيصالها للمتلقي .
وهذا الاسترجاع بما يوظفه فيه من عناصر السرد ، كثرة الأفعال الماضية ،وقوة الإيقاع الصارخ العمودي لبحر المتقارب هو زفرة الفرس الذي يصهل بآخر كلماته قبل أن يودع الأرض مودِعًا على ظهرها لوحة الفداء العظيم.
فعلى صعيد عملية السرد نجد الشاعر العزيز قد عمد إلى الحكي بضمير الراوي العليم ،والذي يحكي قصة هذا الفدائي العظيم -والذي هو طفل- من خلال مخاطبته القارئ في استحثاث غير مباشر من أجل مشاركته مشاعره في هذه القضية .وترتكز البطولة في هذا العمل على الطفل البطل الذي يجد نفسه أمام هذه اللوحة السيريالية المسماة بالوطن تلك اللوحة التي تسببت ضبابات الأنظمة المختلفة السياسي منها والثقافي والتعليمي في حجب الرؤية عنه بشكل كامل ليكون كفاحه من أجل (الرسم) على صفحة هذا الوطن كفاحًا مضنيًا لا يمكن تصور أن طفلاً سيتعامل معه بحِرَفية وفن ، لطالما أن فن التضليل كان هو أداة رسم (اللوحات) المزيفة ، فليس أمام الطفل حينئذ إلا أن يحار من أجل إعادة صياغة هذه الصورة بشكل أوضح مرة أخرى .
وتبدأ عملية السرد فجائية بالفعل الماضي (تخلص) والتي تكرّس ثقافة (التكفير عن الخطايا) التي يتخذها الطفل الذي يتحدث الشاعر عن واقعه كأداة -نهائية- للتكيف مع هذا الرسم السيريالي الذي هو تزوير على كل مدارس الفنون في التاريخ ، ويتخذ الشاعر من القافية الساكنة لحرف انفجاري وهو حرف القاف أداة للتعبير عن عنف هذا الفعل الذي هو الملاذ الأخير لكل من يرجو الخلاص من واقع دولته المرير. وتبدأ هذه العملية (التخلصية) من نزع ثياب المادة ليعيش الشاعر مع الطفل في هذا العالم الروحي العظيم الذي خلا من سفاسف الدنيا وزخارفها ويبقى معه اسم الوطن هو الاسم الذي يدوم على مدى الدهور . وتتداخل الصور الحقيقي معها والفانتازي من أجل إظهار حقيقة المأزق الذي يعاني منه الطفل والذي أدى به انتهاء إلى التخلص.
وإذ يكون التخلص هو ثمرة هذه الصورة المشوشة ، فإن الشاعر يبدأ بها ليعبر عن موقفه الرافض لهذا التشويش وليجعل القائم بهذا العمل البطولي هو مستهّل العمل . ولا تتضح لنا من هذا الطفل العديد من الخصائص الإنسانية أو الجسدية لأنه -في النهاية- قد راح ضحية الانفجار العظيم الذي آثر أن يكون نقطة ابتدائه عن أن يمضيَ العمر كله حيران في هذه الصورة الضاببية والتي قد تتسع لتشمل كل ما حوله ، وهو ما يعكس كينونته (كيانًا من النور في النار شعا) وتنقشم القصيدة إلى خمسة مقاطع كل مقطع منها له قافيته الخاصة ولكنها كلها موزونة ومصرّعة أي أن قافية كل شطر منها مماثلة لقافية الشطر الآخر . وتصف كل منها مشهدًا لا يمكن فصل المشهد عنه والذي يبتدئه بتقنية الفلاش باك أو الاسترجاع من الخلف ، لتبدأ القصة من نهايتها محدثة تشوقًا للقارئ في إطار ترتبط فيه القصة بالقصيدة مع بعض فنون التصوير البصرية الأخرى كالسينيما .
وتبدأ القصيدة بسرد الحدث الأهم وهو التخلص وبعدها تبدأ في كشف ما حدث (خلف الكواليس) تلك التي لا تقود إلا إلى صناعة شخصيات استثنائية في التاريخ نسميها أبطالاً :
تخلص من جسمه فتألق
وحاز جناحي بُراق فصفق
تأمل ألوانه في انفعال ٍ
وفي ريشة من خيال تعلق
وطارد أفكاره فهربن
فسافر في إثرهن وحلق
وحط هنالك بين الشظايا
ليرسم صورة طفل ممزق
ونلاحظ أن هذه القافية المسكّنة من شأنها التعبير عن حالة كتمان الدفقة الشعورية بما يشبه حالة الكبت التي يستشعر القارئ معها عنف هذه المغامرة والتي تؤكد على موقف الشاعر من قضايا الوطن النضالية ، فعملية التخلص تبدأ والفاعل بها مجهول لأنه واحد من آلاف مؤلفة لا نهايةلها من أبناء هذا الوطن الفلسطيني العزيز الذي لا يجد له غذاء ولا شرابًا غير الشهادة ،وهذه العملية التي يصف أحداثها تلخص الموقف الدنيوي والأخروي إذ يكون الشهيد قد تخلص من جسمه وتبدو هنا حِرَفية في استخدام هذا التعبير الذي يُفلسَف الجسد بالنفايات التي حينما يُتخلص منها فإن الحياة تصبح أكثر زهاء ونقاء ، فكأنه يدخل القصيدة من بوابة متصوف زاهد في الدنيا عابرها سريعًا إلى بوابة الدار الآخرة والتي قد حاز فيها بالفعل-وهنا ننتبه إلى أهمية الحذر في التناول مع العبارات الخاصة بالشهادة- ليصفق بجناحيه سريعًا وقد حقق هدفه وهو التألق ، ثم ما أعده الله تعالى للشهداء في دار الكرامة ، وهذا لأن الأطفال غير مكلفين فُهم بإذن الله إذا ماتوا قبل البلوغ كانت الجنة لهم .
وتبدأ القصيدة من خيطها المباشر والمنطقي( الذي كسره الشاعر ليلفت انتباه القارئ إلى الحدث الأساسي )من البيت الثاني الذي يصف فيه الشاعر هذه العملية ، والتي تبدو فيها براعة الوصف وبراءة الموصوف إذ يتأمل الألوان التي عنده (ولابد للقا رئ من الوعي والفطنة إلى دلالة الألوان الرمزية) في انفعال ،ولأن الطفل مبتدئ لم لم تصقل الحياة تجاربه فإنه قد بدأ بالانفعال (ذلك الانفعال الناتج عن الحصار اليومي والذي يكاد يصل خياله) والذي استدعى منه الوصول إلى خيال آمن يمكّنه من تحقيق الأمل المنشود والذي يجد فيه تفوقًا على هذا الواقع ليكون الفن هو سلاح ذلك الطفل البرئ في مواجهة هذا الواقع المرير.ويبدأ المتلقي في التقاط أول الخيوط الخاصة بالرمز من خلال هذه الموازاة على الصعيد الحركي لفعل المطاردة الذي يتحول من كونه روتينًا يوميًا إلى عملية اختراق ومطاردة للأفكار ،ليكون الاحتلال عملية تستهدف الترويع النفسي لطائر الخيال الذي تمسك الطفل بريشة منه.والفعل طارد هو إشارة لهذا الذي يطارد الأفكار ، في إشارة هادئة إلى الاحتلال إذ لا يمكن أن يقوم الطفل بمطاردة أفكاره حتى العثور عليها!وإنما الفعل طارد قد اختزل الآخر في كونه عدوًا يضطر الأفكار إلى الهروب وينتقل الطفل وراءها لكي يستنقذ الخيال الذي تحصّل عليه بالقوة حتى لا يقع الخيال فريسة المطاردات .
وبعد أن تكاملت البيئة الخاصة بالحقول الدلالية ورموزها( البراق-صفق-حلق-خيال -جناح)يتجه الشاعر إلى الإفصاح عن الغاية المنشودة من وراء هذه الرموز في السطر الأخير وهي (الطفل الممزق)
إن هذا الرسام -وإلى الآن ليس هناك إشارة إلى أنه طفل لكنه مبتدئ فحسب- هو إنسان يختلف عن الناس التقليديين لأنه يرى الدنيا بمنظار غير الذي يراه الآخرون به ، فحيث الرسم هو أداة للتذوق الجمالي والحسي وحيث هو -في الغالب- ارتباط بدخائل الصورة الذهنية من ورود وزهور وزروع وطيور ، فإنه يغدو لدى الشاعر شيئًا آخر لأن فلسفة الحياة لديه أنها طفل ولكنه ليس طفلاً برئيًا يمرح بالطائرات الورقية ولا يلبس القبعة ولا يفثأ الفقاعات في غبطة ..إنه طفل ممزق.
إن الرسم والصورة والخيال كلها مشتقات مستمدة من البيئة ، وهذه البيئة هي التي حشدت كل طاقات الطفل ليبدع لوحة استثنائية وهي الطفل الممزق!
الله! ما أعصب الحال وأحزن الصورة عندما تتضافر كل هذه الصور والطاقات المكتسبة لتكون صورة الطفل الممزق هي الوعاء الذي فرغت فيه كل مكتسباتها الفكرية والثقافية والإنسانية!
وتشتمل هذه المقطوعة الأولى على أحد عشرفعلاً ماضيًا(تخلص،تألق،حاز، صفق،تأمل،تعلق،طارد،هربن ،سافر ،حلق، حط) مما يعبر عن هذا الحدث الذي تم في زمان ما ،ولكنه -في نظر الشاعر- لم يمض ولم ينته ولم يكن حادثًا عابرًا وإلا لما أعاره هذا الاهتمام وإنما هو يبكي هذا الرحيل الذي ينتظر من بعده بعث آخر ويبدو أنه لم يلُح له في الأفق حضور بعد مما يضطره إلى التسلي ببطولات هذا الراحل ووصف كل سكنة وحركة منه كما سيأتي فيما بعد . وكان البيت موضحًا للفعل وردة الفعل والتي تختزل كل الجهود التي قام بها على شاكلة التفصيل بعد الإجمال وهو غرض بلاغي يقصد به الشاعر ....
تخلص من جسمه فتألق
وحاز جناحي بُراق فصفق
فالفعل تخلص قابله النتيجة وهي التألُّق والإسراع (حاز جناحي براق) تقابله التصفيق
ليكون هذا المرسومة صورته كائنًا أسطوريًا يشبه طائر الفينيق الذي ينتظر بعثه بعد هذا الرحيل.
وكان في المقطع الأول فعل مضارع وحيد وهو (يرسم) ليضع المهمة وهي الرسم في ميزان التقييم ولتكون هي المهمة النهائية التي يرتكز العمل عليها وليجعل القارئ متتبعًا هذه النهاية هل رسم الصورة فعلاً أم لا ؟
واحتوى المقطع على العديد من الصور الفنية الباهرة مثل : تخلص من جسمه-ريشة من خيال-طارد أفكاره
تلك الصور التي جاءت كلقطات سينيمائية تبدأ بالاسترجاع وهي بدء القصة أو الحدث من نقطة المنتصف ثم بعدها يأتي التسلسل والمزج بين الفانتازيا والحقيقة من خلال التنقل من حال الرسام إلى صورة التحليق من أجل الوصول إلى الأفكار المطاردة في صورة خيالية تحتاج إلى تعليق نقاد السينيما عليها ، انتهاء بالصورة الأجمل وهي الطفل الممزق ، كأن الانتقال بالكاميرا استقر أمام الطفل وقد راح يتذكر صورة الطفل الممزق لتكون الرسالة التي ينشد إيصالها بالصورة أكثر تحريكًا للقارئ وتحفيزًا له لاتخاذ هذا الموقف الفكري من القضية.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس