وذكر الآية ألخرى التى بدأ بها الخطية فى الوفاء بالنذر فقال :
"ومن هذه الآيات التى تدلنا على أن النذر قربى وعبادة الآية التي قدمناها في صدر الخطبة وهي قوله -تعالى-: " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ " فقد دلت على أن النذر طاعة وعبادة وقربى إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- يمدح أصحابها ويثنى عليهم ويعدهم الجزاء الحسن، فقد وردت هذه الآية في سياق صفات الأبرار في سورة الإنسان قال -تعالى-: "إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) [الإنسان: 5، 7] ". وهذا بلا شك ثناء ومدح وتعظيم لهذه الصفة في ضمن مدحهم وثنائهم وتعظيمهم وهو يدل ـ بلا شك ـ على أنها قربى وعبادة يحبها الله -تعالى- ويرضاها. قال الحافظ ابن حجر: يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الْوَفَاء بِهِ قُرْبَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى فَاعِله، لَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص بِنَذْرِ الطَّاعَة، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق مُجَاهِد فِي قَوْله -تعالى- (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قَالَ: إِذَا نَذَرُوا فِي طَاعَة اللَّه، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: النَّذْر مِنْ الْعُقُود الْمَأْمُور بِالْوَفَاءِ بِهَا الْمُثْنَى عَلَى فَاعِلهَا."
قطعا النذر هو أى طاعة يفرضها المسلم على نفسه دون أن يفرضها الله عليه فهو شىء زائد على الفرائض وعرف النذر يقول قتادة فقال:
"قال قتادة: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبراراً.
هذا ـ أيها الإخوة ـ من القرآن الكريم، فإذا ما ذهبنا نطوف في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وجدناها هي الأخرى قد دلت على أن النذر طاعة وعبادة لله كذلك ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يَعْصِه».
والحديث صريح في أن النذر طاعة وما كان طاعة فهو عبادة لله -تعالى- وفي الحديث الذي تقدم معنا في اللقاء السابق عن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال:" نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ "قالوا: لا قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ ". قالوا: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».
فأمره النبي أن يمضي ما نوى من الخير والطاعة لمّا لم يكن ثم مانع، والحديث أخرجه أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.
فإذا ثبت -أيها الإخوة- أن النذر عبادة من العبادات فإنه لا يصرف إلا لله -تعالى- وحده، ويحرم أن يصرف لغيره"
والمستفاد من الكلام ان النذر يكون بعمل طاعة زائدة لله وليس بعمل معصية
وتحدث عمن ينذرون عمل معاصى فقال :
ثانياً: حكم من نذر لغير الله.
أيها الإخوة الكرام! ثبت لنا أن النذر عبادة وطاعة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وهذا بالطبع إذا كان النذر في طاعة وليس في معصية كما سمعنا في حديث عائشة: من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" فمن نذر نذر طاعة فليوف به وليفعله ومن نذر نذر معصية فلا يعمل به ولا يأته ولا يفعله. وبعض الناس يفهم خطأ أن النذر كله غير مرغوب فيه في الشرع المطهر فهماً منهم لبعض الأحاديث التي فيها أن النذر لا يأتي بخير وأنه إنما يستخرج به من البخيل
والتحقيق أن النذر نوعان: نذر مجازاة ونذر ابتداء فنذر المجازاة هو أن يقول الشخص شيئاً يلتزم فيه قربة من القربات في مقابل حدوث نعمة أو اندفاع نقمة، كما نسمع من بعض الناس يقول: إن نجح ابني فعلي لله كذا أذبح خروفًا، أتصدق بمائة جنيه وهكذا أو يقول: إن شفى الله مريضي تصدقت، أو إن عافاني الله من هذه المصيبة سأحج إلى بيته، أو فلله على أن أصوم كذا يوم، فهذا علق النذر على حصول شرط وهذا معنى المجازاة.
وهذا النذر مكروه غير مستحب وترجع كراهته لأمور منها:
أولاً: أنها طاعة مشروطة على الله -تعالى- وهذه سوء معاملة مع الله -جل وعلا-.
ثانياً: أن فيه سوء ظن بالله مع أنه الكريم المنان الذي يعطي بغير حساب.
ثالثاً: أن هذا حال البخيل الذي لا يوقع الطاعة إلا عند الحاجة والاضطرار ولذا روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنذروا، فإن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".
وفي مسلم من حديث ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "النَّذْرُ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ»
وقال بعض أهل العلم: الدخول في النذر ابتداءً غير مرغّب فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، قال: "لا تنذروا" وذلك لأن الإنسان في سَعَة في أمور الطاعة غير الواجبة، إن شاء فعلها وله أجر، وإن شاء تركها ولا حرج عليه، والله لا يحب لنا أن نكلف أنفسنا شيئاً لم يوجبه علينا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وإدخال الإنسان نفسه في نذر غير واجب عليه في الأصل، قد يعجز، وقد يشق عليه، وعلى هذا تُنزَّل الأدلة التي تمدح الذين يوفون بالنذر، قال -تعالى-: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)} هذا مدح لهم، بعد أن ينذروا، ليس مدحاً للدخول في النذر، وإنما هو مدح للوفاء به بعد لزومه، فالإنسان إذا التزم شيئاً لله من الطاعة وجب عليه الوفاء، قال صلى الله عليه وسلم: "اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» ونذر الطاعة دَين في ذمة المسلم؛ يجب عليه الوفاء به، ومن هنا مدحهم الله.
فإذا نذر إنسان هذا النذر وجب عليه الوفاء به كما قال عز من قائل: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم"، ولهذا استحب بعض العلماء أن يقدم الشخص الذي نذر نذر المجازاة يقدم النذر الذي نذره على نفسه قبل أن يحصل الشرط فيكون من باب الصدقة التي يتوسل بها إلى الله أن يقضي حاجته وهذه وسيلة شرعية مقبولة إن شاء الله يرضيه الله -تعالى- بها ولا يسوءه ويسوق محابه إليه هذا نذر المجازاة أو المشارطة وهو كما رأينا مكروه لكن يجب الوفاء به على من أوجبه على نفسه.
وهناك النذر الذي يوجبه العبد على نفسه ابتداء من دون مشارطة أو مجازاة وهو ما يلتزمه الإنسان من غير تعليق على شرط فيقول: لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا أو أتصدق بكذا وهذا مستحب وطاعة خالصة إن شاء الله من الكراهة ويجب الوفاء به فإن الله -تعالى- أمر بالوفاء بالنذر فيما نذر الإنسان من الطاعات والقربات ومدح الموفين به وهذا دليل على أن النذر والوفاء به عبادة من العبادات لأن الله لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم أو مكروه.
هذا حكم النذر عموماً إذا كان نذر طاعة فإذا كان نذر معصية سواء كانت شركاً أو غيره فلا يوفي بها ولا يأتيها كما قال -صلى الله عليه وسلم- ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه كمن نذر أن يذبح عند قبر ولي أو مشهد نبي أو عند عتبة ضريحه أو نذر أن يضيء القبر بالشموع وغير هذا من النذر الشركي.
وكمن نذر أن يشرب خمراً أو يفطر رمضان أو يصوم العيدين أو غير ذلك من نذور المعصية، فهذا لا يوفى بنذره بل ينصرف عنه، فنذر المعصية لا يجب الوفاء به ولا تستحب بل محرم الوفاء به مطلقا نسأل الله معافاته.
|