"وقبل ذكر هذه الأقوال لابد من الإشارة إلى أنه قد تنوعت القراءات في قوله تعالى: "وظنوا أنهم قد كذبوا":
فقرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا"، بضم الكاف وتخفيف الذال مع كسرها، بالبناء للمفعول، وهذه أيضاً قراءة ابن عباس، وابن مسعود - رضي الله عنهم-، والأعمش، وغيرهم. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب: "قد كُذِّبوا"، بضم الكاف وتشديد الذال، ووافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن، وغيرهم .
وهاتان القراءتان ثابتتان، وهما من القراءات السبع وهناك قراءة شاذة تروى عن مجاهد والضحاك "قد كَذَبوا"، بفتح الكاف والذال مع تخفيفها.
قال الإمام الطبري: (وروي عن مجاهد في ذلك قول هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين، الذين سمينا أسماؤهم، وذكرنا أقوالهم، وتأويل خلاف تأويلهم، وقراءة غير قراءة جميعهم، وهو أنه فيما ذكر عنه كان يقرأ: "وظنوا أنهم قد كَذَبوا" بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، ... وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها؛ لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها ... ) .
أقوال أهل العلم بناءً على القراءتين:
القراءة بالتشديد "كذِّبوا" فيها وجهان من التفسير:
الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لما لحقهم من البلاء والامتحان، وتأخر النصر.
وبهذا قالت عائشة - رضي الله عنها-، ففي الصحيح عن عروة بن الزبير أنه سألها عن قول الله تعالى: حتى إذا استيأس الرسل"، قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ قالت عائشة: كُذِّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: (هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نص الله عند ذلك) .
وفي الصحيح أيضاً عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كَذبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاد بالرسل حتى خافوا أن يكون من معك يكذبونهم)، فكانت تقرؤها "وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة .
ولمزيد إيضاح لهذا القول، أشير إلى النقاط التالية:
1 - جعلت عائشة - رضي الله عنها - استيأس الرسل (ص) من الكفار المكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم.
2 - 2 - الظن هنا بمعنى الحسبان ، وعند بعضهم هو بمعنى ترجيح أحد المحتملين ، والضمائر المذكورة في هذه الآية عائدة على الرسل-عليهم الصلاة والسلام- بذلك معنى بعد ثبوتها، ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، .... وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس، كذا قال، وهو خلاف الظاهر) . وهناك من ذهب إلى أن عائشة - رضي الله عنها - لم تنكر القراءة بالتخفيف، وأن ما روي عنها من الإنكار على من قرأ بالتخفيف إنما هو لتفسير الآية، حتى لا يفهم أن الشك لاحق بالرسل، وإلا فقد روي عنها القراءة بالتخفيف أيضاً
4 - الذي يظهر - والله أعلم - أن المعنى الذي لأجله قالت عائشة بقولها في تفسير هذه الآية، وقراءتها لـ "كُذِّبوا" بالتشديد، وإنكارها على من قرأ بالتخفيف، هو تعظيم الرسل (ص)، وعصمتهم وتنزيههم من نسبة الشك إليهم، أو إساءة الظن بربهم عز وجل، وقد صرحت بذلك في الحديث السابق، عندما قال لها عروة: فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقال لها عروة: وظنوا أنهم قد كُذِبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ... الحديث) وأيضاً في ردها تفسير ابن عباس - السابق ذكره، وسيأتي له مزيد بيان-، عندما قالت: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت .... )
وهذا هو المعنى الذي لأجله رجح بعض المفسرين وأهل العلم قول عائشة - رضي الله عنها - في تفسير هذه الآية، حتى إن القرطبي صدّر تفسيره لهذه الآية بقوله: (وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم، وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم) .
وممن رجح هذا القول لأجل ما ذكر سابقاً: القاضي عياض، حيث قال: (فإن قيل: فما معنى قوله: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة - رضي الله عنها -: (معاذ الله أن تظن ذلك الرسل بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم)، وعلى هذا أكثر المفسرين، وقيل إن ضمير "ظنوا" عائد على الأتباع والأمم، لا علي الأنبياء والرسل، وهو قول ابن عباس، والنخعي، وابن جبير، وجماعة من العلماء، وبهذا المعنى قرأ مجاهد "كَذَبوا" بالفتح، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء فكيف بالأنبياء؟) .
وابن عطية في قوله: ( ... وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في "ظنوا"، وفي "كذبوا" عائد على الرسل، والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه، وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم، والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم، قاله ابن عباس، وابن مسعود أيضاً، وابن جبير، وقال: ألم يكونوا بشراً؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا: هو الذي نكره، وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين، وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا، وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟) .
ورجحه أيضاً: ابن قتيبة ، والفخر الرازي ، والثعالبي ، وغيرهم من أهل العلم .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بعد بيان قول عائشة وردها لتفسير ابن عباس، هو: هل تضمن تفسير ابن عباس لهذه الآية طعناً في العصمة، أو قدحاً في الرسالة؟ سيأتي بيان هذا بالتفصيل - إن شاء الله تعالى -
الثاني: ذهب الحسن وقتادة إلى أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم، وأيقنت الرسل أن قومهم قد كذبوهم
وعلى هذا القول فالضميران في "ظنوا" و "كذبوا" يعودان على الرسل (ص)، والظن هنا بمعنى اليقين.
وقد ضعَّف الإمام الطبري هذا القول، فقال: (وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة؛ لأنه لم يوجه "الظن" في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن الظن" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر، أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه "الظن"، لا تكاد تقول: "أظنني حيا، وأظنني إنساناً"، بمعنى: أعلمني إنساناً، وأعلمني حياً، والرسل الذين كذبتهم أممهم لاشك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة، فيقال فيها: ظننت بأممها أنها كذبتها) .
أما القراءة بالتخفيف "كُذِبوا"، ففيها وجهان من التفسير أيضاً:
الأول: عن ابن عباس، وابن مسعود وعن سعيد بن جبير أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل، وكانوا بشراً، فضعفوا، وظنوا أنهم أُخيفوا .
وقد تقدم حديث ابن عباس في الصحيح، عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وعن ابن أبي مليكة قال: قرأ ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قال: (وكانوا بشراً ضعفوا ويئسوا) .
وعن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قرأ: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، قال ابن جريج: أقول كما يقول: أُخْلِفوا، قال عبد الله: قال لي ابن عباس: (كانوا بشراً، وتلا ابن عباس: "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"، قال ابن جريج، قال ابن أبي مليكة: ذهب إلى أنهم ضعفوا فظنوا أنهم أُخْلِفوا) .
وعن مسروق، عن ابن مسعود أنه قرأ: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" مخففة، قال عبد الله: (هو الذي تكره) .
|