عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-09-2023, 06:47 AM   #2
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 6,040
إفتراضي

إن أمت عشقا فلا عجب ... هكذا أوصى إلي أبي
فلا نشك في أن العشق الذي ورثه الشاعر عن أبيه، وعن عمه، وهما بدورهما عن جده، وعن قومهم من الصوفية السابقين، هو عشق صوفي خالص وحب إلهي صرف، ولن تنصرف أفكارنا أو تتجه ظنوننا إلى حب بشري دنيوي، ثم لا نجد أنفسنا مضطرين إلى تمحل التأويلات الغريبة، كابن عربي حين اضطره غموض الرمز وغلوه إلى شرح ديوانه " ترجمان الأشواق"شرحا متكلفا أيما تكلف، ليدفع عن نفسه الريب الذي جره عليه شعره، إذ اضمحلت فيه الخطوط الفاصلة بين الحب الحسي والحب الروحي الرباني، وتلاشت بحيث يغدو التمييز بينهما أمرا عسيرا"

والتفرقة بين النفسى والروحى هو من ضمن الخبل فلا وجود للروح بمعنى الشىء الذى يموت إلا كونها النفس كما قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت" فالروح والنفس شىء واحد وليس شيئين
وتحدثوا عن استعماله لوازم العشق والغزل الحسي فى شعره فقالوا:
"وإذا كان شاعرنا المقدسي يستعير – أحيانا – من لوازم العشق والغزل الحسي ما قد يوهم السامع، قليل الخبرة بأساليب القوم، أنه غير جائز في باب العشق الإلهي، كقوله في عتاب الأحبة:
أعاتب من أهوى فيصغي تعطفا ... علي وأصغي بعد ذاك فيعتب
إليك فإن العشق للصب مهلك ... وفي طيه من جانب الصبر مطلب

ولا غرو إن أنكرت فرط صبابتي ... وداء الهوى صعب لمن لا يجرب
فبالنظر إلى مستهل القصيدة الذي يقول فيه:
حديث الهوى يملى علي فأطرب ... وكأس الرضا يجلى علي فأشرب
فلا عجب أني سكرت وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب أعجب
نجد من ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم ( كأس الرضا، البقاء بعد الفناء ) ما يؤكد أن الشاعر يرمي إلى حب إلهي لا بشري، وأن العتاب الذي يشير إليه الشاعر هو كالذي ورد في قوله تعالى لنبيه الكريم: { عفا الله عنك لم أذنت لهم }وفي قوله عليه الصلاة والسلام لربه، حين بلغ به أذى المشركين – في قصته مع ثقيف الطائف - مبلغه: { أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي } فقد عاتب الله النبي وعاتبه نبيه، وعتابهما يحمل على عتاب الأحبة، وهو أمر مألوف في مقام الحب."

وما قاله الشاعر فى الكلام المنقول يفرق تماما عن كلام الرواية المنسوبة للنبى(ص)فمن المحال أن يكون البقاء والفناء فى نفس الوقت" وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب"
ومن المحال أن يكون حب الله مهلك كما قال" فإن العشق للصب مهلك" لأنه منجى كما قال تعالى " وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم"
وتحدثوا عن ترفع الرجل عن الحب الأنثوى فقالوا :
"وفي أغلب الأحوال كان شاعرنا صريحا في غزله، مبينا في مقاصده الصوفية، ومعبرا تعبيرا مباشرا أحيانا عن ترفعه عن أية علاقة بشرية أو حب أنثوي، بل هو ينعت ذلك الحب البشري بالخسة والدناءة، يقول:
شغلت بمن أضحى فؤادي محله ... ولم يك شغلي بالرباب وعلوة
ولم ترض روحي بالدناءة إنما ... إلى عالم المعنى زممت مطيتي
فشاهدت معنى لو بدا كشف سره ... لصم الجبال الراسيات لدكت
على طور قلبي كان ميقات قربتي ... وفي قاب قوسي الحبيب تجلت
فلاح على الأشباح منها جلاله ... وفاح على الأرواح عطر نسيمتي
والأبيات – كما نرى – لا يمكن قراءتها إلا قراءة صوفية، فقوله: ( شغلت بمن أضحى فؤادي محله ) إشارة إلى الحديث القدسي: { ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن }وقوله: (عالم المعنى، وطور قلبي، وقاب قوسي الحبيب، وتجلت، والأشباح والأرواح ) كل هذه الأمور لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في إطار حب صوفي يتسامى فوق عالم المادة.
وفي قصيدة أخرى يعبر عن هذا المعنى أيضا، مؤكدا ترفعه عن الحب البشري في أرقى صوره، لأن لديه ما يشغله عن كل ما يصبو إليه أرباب الحب التقليدي، وأساطين الغزل العذري، ذاك هو المحبوب الأزلي الذي سكن قلبه، واستولى على جوارحه؛ فبه يسمع وبه يبصر، هو مقصوده إذا صرح، ومراده إذا كنى، إنه غاية الغايات، وكل ما في الجنان من نعيم خالد تطمح إليه النفوس، فإن شاعرنا لا يجد له قيمة تذكر، أو نفعا يرتجى، إلا أن يكون سببا في قربه من محبوبه، وهو أقصى ما تتمناه نفسه، ويهفو إليه قلبه:
فدعني من تغزل قيس ليلى ... ومن أبيات شعر جميل بثن
فبي شغف عن الأشعار يلهي ... وبي طرب عن الأوتار يغني
وفي إياي كل لطيف معنى ... فمني إن سمعت سمعت عني
أغني باسم حبي لا أكني ... وإن أك قد كنيت فذاك أعني
ولا أبغي النعيم ولست أرضى ... نعيما لا ولا جنات عدن
وما نفعي بدار لست فيها ... وأنت القصد يا أقصى التمني

وفي البيت الثاني نجد الإشارة واضحة إلى أن الفن ليس مقصودا لذاته، لدى شاعرنا؛ فالشعر والموسيقى عند الصوفية إنما هما وسيلتان لا غايتان، وهما من جملة الأدوات التي يستجلب بها القوم الشعور بالوجد الباطني، والغبطة الروحية، التي ينشدها هؤلاء، ويسعون إلى تحقيقها بمختلف السبل والأساليب."
بالقطع الترفع عن حب الأنثى أو عن جماع الزوجة إنما هو كفر بما جاء به الله وهو وجوب الزواج كما قال " انكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم"
فهذا الحب الذى يشيعه الرجل هو حب كفرى لأنه به يعمل على فناء البشرية بعدم الزواج ولو حاسبناه حسب الروايات لكان كافرا أيضا لأنه لم يقلد نبيه (ص) فى زواجه
وتحدثوا عما سموه لوازم الحب فقالوا :
"لوازم الحب:
1- البعد والفراق، وشوق المحبين:
يلخص الشاعر معاناة المحبين، وما يلقونه من ألم البعد وهجر الأحبة وصدهم، فيقول:
وهجر وصد وبعد لمن ... أحب؛ ثلاث من المضنيات
وهذه الأمور تضني العاشقين حقا، وتسبب لهم العناء والشقاء. ويشبه الشاعر ما يلقاه من ألم الصد ولوعة الشوق بنار الجحيم، ولاسيما أن ليل البعد يطول على العاشق حتى يخيل إليه أنه لا صبح بعده، ولا نهاية لعتمته، وفي الوقت نفسه لا مفر منه ولا مهرب:
أين المفر من الهوى ... هيهات "كلا لا وزر"
فذق المحبة واعتبر ... كم في المحبة من عبر
من ذا يطيق تصبرا ... ما في المحبة مصطبر
يا سيدي مالي أرى ... ليل الصدود بلا سحر
وليس للمحب العاشق إلا أن يذرف الدموع غزارا، تحت وطأة شوق أضنى جسده، حتى اعتراه النحول، وغلب عليه الاصفرار والذبول:
ركبوا الشوق في هواه وساروا ... ولهم أدمع عليه غزار
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... واعتراهم من النحول اصفرار
دموع وحسرات، ولوعة وآهات، وشوق كالنار يحرق قلوب العاشقين. فمتى يكون الوصل، وتنصلح حال المحبين؟!
أبكي عليك بدمع عيني الهاطل ... لعسى تبل غليل قلبي العاطل
يا ممرضي وطبيب قلبي في الهوى ... عد بالوصال عليل جسم ناحل
ذابت بنار الشوق فيك حشاشتي ... فمتى يكون صلاح حالي الحائل
ولا يجد المحب سلوانه إلا بالعيش مع الأمل، وترقب الوصال المنتظر، ويا لطول أمل العاشقين، فلئن لم يتحقق ما تصبو إليه قلوبهم في هذه الحياة، فغدا في الآخرة يكون لهم ما يرجون، وتتحقق أمانيهم كما يرغبون:
غدا يا معشر العشاق يعطى ... حليف الشوق منا ما تمنى
ونشهده وننظره عيانا ... ونظفر بالوصال كما وعدنا
فطوبى ثم طوبى ثم طوبى ... لمن بجمال مولاه تهنا
قد يألف المحب عذابه في الحب، فيحلو له هذا العذاب ويطيب، ويلذ له الألم ويسوغ:
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... بخضوع وذلة وانتحاب
جرعوا الصبر في هواه فطابوا ... وبه استعذبوا أليم العذاب
قدر المحبين أن يحترقوا بنار الحب، وعليهم أن يرضوا بذلك المقدور، فيسلموا به، ويستسلموا لمجاريه:
ولا غرو أن أصليت نار تحرقي ... فنار الهوى للعاشقين أعدت
ولم لا يكون منهم التسليم، وهذه النار لا مفر منها ولا مهرب:
نار المحبة أضرمت ... في القلب ترمي بالشرر
وهي التي اشتعلت فلا ... تبقي سواه ولا تذر
هيهات "كلا لا وزر"

ولكن هل يستطيع العاشق أن يحافظ على اتزانه في جميع الأحوال، فيسلم بقدره، ويلزم الصبر، ويتحمل الأذى؟ لا ريب في أن ضعفه البشري سوف يتغلب عليه ذات مرة؛ فيفقد صبره، ويضج بما يحمله قلبه من لوعة وحريق، ويصرخ في وجه عاذله، معبرا عن هذا المعنى، فيقول:
يا عاذلي في الحب دعني فقد ... حمل قلبي فيه مالا أطيق
جسم نحيل قد براه الضنى ... ومهجة حرى ودمع طليق
فكيف لي بالصبر يا لائمي ... والصبر في شرع الهوى لا يليق
بل إنه في بعض الأحيان تنتابه نوب من الشك والقلق، ويعبر عن خوفه الشديد من أن تخيب آماله، فتضيق به الحيلة، وتسد في وجهه الطرق، فيتساءل ويتساءل؛ متى يسعفه الحظ برؤية الأحباب؟ متى يكون الوصال؟ متى يحظى بالرضى؟ ... فيلجأ إلى التضرع والاستعطاف، راجيا ربه ألا يخيب آماله، وألا يبدد أحلامه:
إن فاتني وصلكم يا خيبة الأمل ... كيف احتيالي وقد ضاقت بكم حيلي
متى بعيني أرى يوم الوصال متى ... أرى رسول الرضى وافى على عجل
ألا فحنوا وجودوا واعطفوا كرما ... لا خيب الله فيكم سادتي أملي
وهكذا يركب المحب أمواج الحب، طورا يصعد وطورا يهبط،

رضا البطاوى متصل الآن   الرد مع إقتباس