ولهذا كان ابن شهاب الزهري -وهو من متأخري التابعين- يكتب أقوال الصحابة ويترك أقوال التابعين وخالفه صالح بن كيسان في ذلك فكان يكتب أقوال الصحابة ويكتب أقوال التابعين فلما كان في القرن السابع كما يقول الحافظ ابن رجب تعالى: كان متحتما على من رام علما أن يكتب أقوال الصحابة وأقوال التابعين وأتباعهم وأقوال الأئمة كالإمام أحمد و الشافعي و إسحاق و أبي عدي وغيرهم
وهؤلاء بأقوالهم يتبين للإنسان معرفة الحق والصواب من الباطل والخطأ وذلك أنه بأقوال هؤلاء الأئمة يعرف الأدلة لأنهم أصحاب نور وهداية وتمسك بالوحي لهذا كان العلماء يجعلون من شروط المفتي أن يكون عارفا عالما بالخلاف عالما بأقوال العلماء على تباين أحوالهم وقد جعل هذا شرطا في المفتي غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد وكذلك ابن مهدي و ابن المبارك و الخطيب وغيرهم من الأئمة قالوا: إنه لا يتأهل المفتي للفتوى حتى يكون عالما بأقوال الناس وقد سئل الإمام أحمد عمن لديه السنة عن رسول الله (ص)ولكنه لا يعرف الصحيح من الضعيف ولا يعلم أقوال الناس هل يفتي؟فقال: لا، وإنما يسأل أهل العلم وكأنه ما جعله من أهل العلم حتى يعرف الصحيح من الضعيف من هذه السنة وكذلك يميز بين أقوال العلماء المتشدد منهم والمتساهل"
وحديث الطريفى متناقض فهو يرد ألأمر للنصوص فى قوله" المرد والمآل في سائر النصوص إلى كلام الله" ومع هذا بطالبنا أن ،اخذ بكلام القريبين زمنيا من الوحى فيقول" وذلك أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ عمن قرب من الوحي"
وهو ما يتعارض مع وجوب الرد إلى الله وحده كما قال تعالى :
"وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله"
وتحدث عن أسباب الزلل فى الفتوى فقال :
"أسباب الزلل في الفتوى وأخذها:
وكثير من الناس يقع في الوهم والزلل وعدم الإدراك للصواب فيأخذ بطرق يظن أنه على الحق فيها والزلل الذي يقع عند المفتين وكذلك من ينصب نفسه مكان المشرع ويفتي في شرع الله بأقوال عباده ويتنكب الدليل والمزالق في ذلك كثيرة لكن ليست كلها بسبب سوء النية أو التعدي على الشرع أو النظر في الترخص والمباحات، لا ولكنه يكون بعضها بالجهل وعدم الاحتراز لجناب الشريعة والعناية بالدليل فإن أعظم المزالق التي ينزلق فيها كثير ممن يقول بخلاف الحق ويتنكب الدليل هي لعدم معرفته بالصحيح من الضعيف من السنة ومن كانت حاله هذه فليس أهلا للفتيا حتى يميز صحيح الأثر من ضعيفه
وقد نص على هذا غير واحد بل حكموا بأن من كان حاله على هذه الحال أنه لا يجوز له أن يفتي ويجب عليه أن يسأل أهل العلم العارفين بالصحيح من الضعيف من كلام رسول الله (ص)وقد نص على هذا عبد الرحمن بن مهدي وكذلك الإمام أحمد و ابن المبارك و الخطيب البغدادي وكذلك ابن القيم وكذلك الإمام الشافعي في مواضع من مصنفاتهم عليهم رحمة الله أنه إذا كان العالم لا يملك آلة التصحيح والتضعيف ولا يميز الصحيح من ضعيفه فهذا ليس أهلا للفتيا وهو داخل في دائرة العوام من جهة التقليد وهو مقلد لا غير
وكذلك أيضا من المزالق التي تجعل القول الشاذ يرويه كثير من الناس أو العامة عدم العناية بالقول الصحيح لأن طالب العالم حال طلبه للعلم يحاول التماس الراجح من أقوال الفقهاء فيحفظ المصنفات من المتون الفقهية ويكون أول ما يصل إليه الترجيح على قول فلان أو الترجيح على قول فلان من غير التماس للدليل فيأخذ بقول العالم الفلاني لأنه قد حفظ متنه الفقهي فحال سؤاله عن مسألة من المسائل يتبادر إلى ذهنه أول ما وصل إليه من الأقوال
وهذا من أسباب نشوء الخلاف وكذلك عدم التوسع في معرفة الخلاف فإذا كان طالب العلم يحفظ متونا فقهية وهي أول ما وصلت إليه ولم يسبق ذلك بحفظ الدليل عن رسول الله (ص)فإنه عند سؤاله يبادر إلى ما حفظه من أقوال العلماء من غير نظر للدليل فإذا علم أن أحدا خالفه شدد عليه وظن أنه قد خالف الحق وهو ما عرف إلا ذلك المتن الذي قد حفظه
وكذلك أيضا من مواضع الزلل عند المفتي في مخالفة النص أن المفتي ربما يجهل حال البلد الذي استفتي منه وربما تكون حال ذلك البلد تختلف عن حال البلد الذي هو فيه وبتلك الحال ربما يختلف الحكم الشرعي لأن الشرع قد علق الأمر بعلة شرعية إن وجدت وجد هذا الحكم الشرعي فلما كان البلد قد تغير فإنه ينتفي هذا الحكم وينقل إلى حكم آخر لأنه معلق بعلة والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما"
وهذا الحديث عن أسباب الزلل هو بعيد عن الحقيقة فى كثير منه فمرد الزلل وهو الخطأ إلى ثلاث :
الأول اتباع الهوى
الثانى عدم الفهم سواء للقضية أو للنص
الثالث الإكراه سواء كان خوفا من الحاكم أو من الناس
وذكر أمثلة عن سبب من اختلاف الفتاوى بسبب اختلاف البلد والعادات فقال:
"والأمثلة على ذلك كثيرة فربما سئل مفت من المفتين عن مسألة خضاب الرجل وهل يجوز أم لا؟ فربما أفتى بأنه لا يجوز لأنه تشبه بالنساء لأن النساء في بلده يخضبن والرجال لا يخضبون، ولكن في كثير من البلدان الإسلامية ربما الرجال يخضبون أكثر من النساء فإذا كان العالم يعلم حال ذلك البلد التي قد استفتي فيها فإنه يكون على بينة ولا يحدث قولا يحمل على الشرع فيخالف الأصل الذي قدره الشارع وهو تعليق الأمر على تلك العلة التي علق الشارع الأمر بها
ومن ذلك أيضا ما يتعلق بلباس الناس من جهة التشبه ومن جهة الألوان فربما يسأل العالم عن لباس المرأة ولون لباسها ونحو ذلك كأن تكون المرأة تخرج بعباءة خضراء أو عباءة صفراء أو عباءة بيضاء ونحو ذلك فيقول بعدم الجواز ولا يعلم حال المستفتي ولا حال بلده
وذلك لقوله أن الرجال يلبسون البياض وأن النساء قد اختصصن بالمباينة وحال ذلك البلد أن الرجال والنساء لا يفرق بينهم من جهة لون اللباس والواجب الستر فحينئذ يقال: إن الشارع لم يخصص لونا بعينه ولكنه إذا وجد في بلد أن الرجال قد امتازوا بلون والنساء قد امتزن بلون فإنه يحرم على النساء أن يلبسن ألوان الرجال ثم يفتي بأنه يحرم على المرأة أن تلبس اللباس الأبيض لأنه من اختصاص الرجال في بلده
وأما البلد الآخر الذي منه المستفتي فيجاب بحسب معرفة الحال لهذا يقول ابن تيمية : وإنما وقع الخلاف في الشرع ومنهم من يعلم الدليل من الكتاب والسنة ويجهل السياسة الشرعية ومنهم من يعلم السياسة الشرعية ويجهل الأدلة من الكتاب والسنة "
والحقيقة أن الفتاوى لا تقوم على اختلاف البلاد أو اختلاف عادات الناس فالفتوى واحدة فى أى مكان إلا ما نص الله عليه من الوجود فى بلاد الكفر حيث يجب اخفاء مظاهر الإسلام كالصلاة علنا وأيضا الفتاوى الخاصة بالحج فى مكة
وأما العادات فأحكام الله فيها واحدة ولو قلنا حكم الله فى الخضاب وهو تغيير خلقة الله بلون ما فهو الحرمة لأنه استجابة لقول الشيطان:
" ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"
ومن ثم لا يتعلق الحكم باختلاف البلد
وأما حكم ألوان الملابس فالله تركه مفتوحا فلم يذكر لونا ولم يذكر مادة صناعته ومن ثم كل الألوان مباحة لأن حكم الله فى اللبس فى الأماكن العامة وأمام الأجانب المحرم النظر عليهم فهو مواراة أى اخفاء العورة كما قال :
"يوارى سوءاتكم"
وتحدث عن واجبات المفتى فقال :
"ما يجب على من تصدر للفتوى
ولهذا الواجب على المفتي أن يكون فاهما والفهم على نوعين كما قال غير واحد من العلماء أن يكون فاهما للدليل وأن يكون فاهما لحال المستفتي وهذا قد نص عليه الأئمة في قرون طويلة وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل أن المفتي لا يمكن أن يؤهل للفتوى حتى يكون فيه خمس خصال:
الخصلة الأولى: أن يكون صاحب نية وورع فإنه إن كان فيه نية كان في وجهه نور وإن كان في وجهه نور كان على كلامه نور
الخصلة الثانية: أن يكون صاحب علم وحلم ووقار وسكينة
الصفة الثالثة: أن يكون قويا وقادرا فيما هو فيه
الصفة الرابعة: أن يكون صاحب كفاية وإلا مضغه الناس
الصفة الخامسة: أن يكون عالما وعارفا بأحوال الناس خاصة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية التي هي منوطة بعلل ولم يعلقها الشارع بحكم شرعي بائن لازم على كل حال فإنه تتباين الأحكام الشرعية من حال إلى حال ...وشريعة الله مآلها ومردها إلى الكتاب والسنة وليس إلى قول فلان من الناس ومن نظر إلى حالنا في هذا العصر وجد أننا أحوج ما نكون إلى إعادة الناس إلى الكتاب والسنة والنهل من فقه السلف من الصحابة والتابعين بعيدا عن التمسك بأقوال الفقهاء من البلد الفلاني والبلد الفلاني ومن نظر إلى العلماء الذين تكلموا في المقاصد الشرعية كالإمام الشاطبي وجد من تتبع شواذ أهل العلم ورخصهم قد خرج عن الإسلام
|