وقد تظهر الحواشي ميول القارئ وعنايته بأشياء مخصوصة، وهذا شئ فطري لإيمكن تجاوزه، لكننا نؤكد هنا على ضرورة تسويد الكتاب أولا، وإغراقه بالفوائد والتعليقات، ثم تأتي مرحلة ثانية من النصح والنباهة تجعل القارئ لا يعلق إلا ما يفيده ويدعم عنده الفائدة المقصودة.
وقد يعقب ذلك الانتقال إلى الحواشي النقدية، التي تخطها أيدي الصفوة، والقراء النهمين العمالقة، الذين يثرون الكتاب بالرد والنقض، والتأييد والتعقيب، وهذه مرحلة متأخرة ستحصل وتتنامى مع شدة العمق القرائي، واستدامة النهج البحثي والمعرفي.
ومن صور التحشية انتهاج التخطيط والعلامات على جمل معينة أو مسائل محددة، أو إشكالات خاصة، وإن لم يكتب شيئا، لكنه خطط ورسم وعلم، بحيث يراجعها في يوم من الأيام، ويمكن أن نسميه هنا (ترميز القراءة).
وهي نوع من التحشية والفهرسة الجميلة للمقروء، بحيث يستخدم إشارات معينة للكلام الجزل المفيد، وإشارة خاصة لما يراد حفظه، وأخرى لما لا يفهمه، وأخرى لما يرى غثاثته، وعدم الحاجة إليه ... !!وهنا يمكن أن يستخدم الألوان المختلفة كالأزرق والأحمر والأخضر للمهم والمفيد والمثير والمحفوظ وهلم جرا ..
المهم أن يجسد صلته بالكتاب قراءة وحذقا وحاشية وخربشة، بحيث تمتلئ عيناه بالنظر إلى الكتاب، فتحفظ شكله ولونه وطريقه نظمه وكتابته، من طول النظر، ودوام التعليق وغزارة الإظلام المضئ، والتسويد المشرق."
وكل ما ذكره الرجل لا فائدة منه إلا فى الدراسات العليا وأما الطلاب الذى يتم تعليمهم فى المدارس والجامعات فالمطلوب هو تعليمهم أحكام الإسلام ببساطة ودون دخول فى متاهات
والحاشية الوحيدة المفيدة هى الحاشية النقدية والتى تختص فى الغالب ببيان أخطاء الكتاب ومخالفاته لكتاب الله وهذه يمكن نشرها فى كتاب دون الكتاب للأصلى لتقليل حجم الكتاب وكلفته فى زمن لم يعد أحد من القراء إلا النادر يملك مالا لشراء الكتب
وتحدث عما سماه الحاشية المنظمة فقال :
"التحشية المنظمة وسواها
مع استمرار القارئ الحصيف في التحشية، وانهماكه في حلوائها، سيبين له من خلال الكتابة وحذقها، أنه بإمكانه تنظيم الحاشية، وحصرها في نطاق علمي موحد.
حيث يعمد إلى متن نحو (صحيح البخاري) مثلا، فيعلق عليه خلاصة شروح البخاري كالفتح والمعالم والعمدة والإرشاد، والبهجة والكوثر وشبهها، بطريقة مختزلة مستخلصة، بحيث يفرغ من المتن قراءة، وقد دبجه بروائع المعاني المتفرقة في أمهات الشروح، مع ما قد يضيفه هو من فوائد، يفتحها الله عليه، ثم بعد ذلك يعدها للإلقاء والطرح والنشر.
أو يندفع إلى متى عقيدي (كالطحاوية) أو (الواسطية)، ويذيلها بحاشية مذهبة موزونة، تنصب في النطاق العلمي المخصوص، بلا تفريعات ولا هوامش دخيلات، إلى أن ينتهي إلى خلاصة عقدية جميلة لذلك المتن الشريف.
أو يكرس جهده لمتن فقهي في أحد المذاهب الأربعة المشهورة (كالهداية) عند الحنفية أو (أبي شجاع) عند الشافعية، أو (خليل) عند المالكية، أو (الزاد) عند الحنابلة، فيصب فيه رؤوس المعاني، الفاكة لعقد المتن، مذيلة بخلاف يسير في المذاهب، وتعليلات فقهية رائعة واستنتاجات هادئة، أو يملك نسخة من تفسير القرآن الكريم المختصرة، المطبوعة بذيل المصحف، فيضم إليها مختصرا تفسيريا رزينا من أحد التفاسير المشهورة، أو يلخص مضمون ثلاثة تفاسير جياد على نسخته الأصلية.
وقد جربت بحمد الله هذه الحاشية المنظمة على عدة كتب، كان من أهمها وأدقها حاشية تفسيرية على نسخة (الحافظ التجيبي) على تفسير ابن جرير الطبري، حيث طبعت بهامش القرآن، فامتلكتها وعلقت على هوامشها، عصارة ذهن ابن الجوزي الخلافية في كتابه الشهير (زاد المسير) ورغم ضيق الهامش، إلا أنني حاولت إدخال ما يمكن إدخاله من خلافات التفسير المفيدة، وأشعر بالحاجه الماسة إليها.
وإن كانت هذه حاشية متقدمة بجانب ما يفعله المبتدئ إلا أنها صورة تطبيقية لما نريد حكايته وترسيخه في المنهج العلمي للطلاب، وكانت الفوائد والعوائد واسعة النطاق على العبد الفقير، خرج منها بما يلي:
(1) ترسيخ المكتوب، وفهم مكامن الخلافيات التفسيرية.
(2) إدراك معالم منهج ابن الجوزي في التفسير، وسعته النقليه التي تتجاوز الوصف، ووعي ما قد يكون مأخذا عليه
(3) الالتذاذ التقييدي المباشر للقلم والكتابة، بحيث ترافقك اللذة، ويجانبك الملل، ولا تحسب حساب المكتوب والتعب.
(4) توسيع المدارك النقدية وبحيث يمكن فرز تلك المنقولات، ومقارنتها بأقوال أخرى تصاحبها، أو تفوقها صحة واستدلالا.
(5) معرفة كبار أئمة التفسير واللغة الذين يهتم بهم ابن الحوزي، ولا يكاد يتجاوزهم إلا قليلا.
(6) فهم تدبر القرآن، والعيش في ظلاله واستنباط دروسه وعظاته، التي لا تدرك إلا بشئ من النظر والأناة، والربط والمقارنة.
(7) الاحتكاك المباشر باللغة القرآنية، وحيازة مفرداتها وروائع تركيباتها، وهذا شئ يطول جدا، وهو علم بحد ذاته، حيث أتاح التفسير فهم تلك المفردات الغريبة والتي لا تفهم بمجرد حفظ القرآن، بل لابد من العود للتفاسير والشروحات.
- هذا ما يمكن أن نسميه (حاشية منظمة) تدور في فلك علمي، واحد بحيث إذا فرغ من الكتاب باتت ككتاب معلق أو شارح لذلك المتن الأصلي، أما سواها فهي (الحاشية العامة)، التي تجاوز حدود الفن الواحد، وتنفتح على سائر الفنون والعلوم والكتب والتعليقات، بحيث يكون فيها شمولية غزيزة لاحد لها، تثري الكتاب، وتثقف الطالب وتوسع مداركه، وتقدح زناده للمضاء والاستزاده والتوسع ..."
وكما سبق القول الحواشى بديلها المفيد هو نشر نقد القارىء فى كتاب بمفرده فهو أفيد للقارىء وأرخص سعرا عندما يتم نقل الفقرات التى تم التعليق عليها مع التعليق
وبالقطع لا يقرأ تلك الكتب المحشاة عند النشر إلا قلة ثم ترمى ولا يقرئها أحد لأنها لا تفيد جمهور القراء نظرا لضخامة عددها صفحاتها ومجلداتها
وتحدث عن التحشية فى عصرنا فقال :
"التحشية في عصر السرعة والمعلومات
عصرنا الذي نعيش فيه، تميز بالسرعة والتدفق المعرفي والمعلوماتي والاقتصادي العجيب.
بحيث أن حجم المعلومات المقذوفة في الساحة، لا يمكن للقارئ المجتهد بلوغها والإحاطة بها فضلا عن القارئ البسيط!!
هذا يتطلب من القارئ الفهم الحصيف، مضاعفة الجهد، وامتطاء السرعة، والمبادرة وتوفير الزمان، والتقليل من المباحات، وشحذ العزيمة، وتقدير قيمة العلم والمعرفة.
والشبهة هنا أن التحشية والتعليق تأخير وتخلف عن قافلة المسارعين وقنطرة المجيزين، مما يعني تراكم المعلومات، وتأخر الفهم، والتباعد الذهني، الذي سينعكس بتداعياته على الطالب والعالم والمثقف.
ولتجاوز ذلك الاهتمام بالقراءة أولا وانتهاء، والاكتفاء بالتخطيط العابر بالقلم الرصاص، لإنجاز قدر كبير من الكتب في الشهر الواحد.
وللجواب على هذه الشبهة:
(1) أولا: علينا ان نعي أن لكل وسيلة محاسنها وعيوبها، وهذا من عيوب التحشية، ولكن المحاسن المذكوره سلفا تغطي على هذا العيب، وتتجاوزه إلى النتيجة النوعية المدروكة من خلال الوصفات السابقة.
أما الهذ والهذرمة، والخطف، والسرعة، فهي وإن أنجزت كتبا لا تثمر نوعيا، ولا تحرك الأذهان ولا تصنع المثقفين والمبدعين.
ثانيا: مع دعوتنا إلى التقييد والحاشية، لا يعني الارتخاء والانبساط، بل يجب الأخذ بحزم، والسير بقوة، والتحرك باهتمام ومبادرة، لأن قراءة الكتاب بالتحشية نتجاوز قراءته بدون ذلك وقتا وزمانا، بحيث قد يتضاعف الزمان، ولكنك تعود بالإحسان، وذلك يختصر الزمان، وقد يبوء بالحرمان، فلا يخرج إلا بالاسم والرسم!! وربما نسي الكتاب ومؤلفه، برغم أنه ختمه، ولكن على عجل وبلا تعليق وتقييد!!.
ثالثا: التأخر المنتج خير من الاستعجال الفارغ، بحيث إنه قد يمر عليك شخص قراء يلتهم الكتب التهاما، ولكن حصليته العلمية، ووعاءه العرفي محدود والسبب دوام استعجاله الفارغ، واندفاعه الخاطف، وعزوفه عن الحاشية العلمية.
على أنه قد يوجد قارىء سريع، ولا يقيد، ولديه من الإمكانات الذهنية ما تجعله محيطا بمعالم ما يقرأ، لكننا هنا نرسم منهجا لجمهرة الطلاب، ونؤكد تفوق المحشي عل من سواه من المقتدرين والمسرعين، وهو منهج علمي قديم، سار عليه الأسلاف، وسنه فضلاء الناس، ومنهم الأذكياء والعباقرة، وهو فسيح الفائدة، وعظيم الثمرة والعائدة.
رابعا: من قديم الزمان وشكاية العلماء والمفكرين من غزارة المعرفة، وقصور الامكانات الذهنية، وفي الحديث (اللهم إني أسألك علما نافعا).
|