عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 11-12-2022, 08:56 AM   #2
رضا البطاوى
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2008
المشاركات: 6,032
إفتراضي

"إنما الأعمال بالنيات
أول ما ينبغي أن يعنى به طالب العلم النية الصالحة فلا يبتغي بطلبه للعلم مالا ولا جاها، ولا يبيع حظه من الآخرة بلعاعة من الدنيا تذهب لذتها وتبقى حسرتها! فإن من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله - لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا - لم يجد عرف الجنة يوم القيامة، وقد صح عنه (ص)أن في طليعة من من تسعر بهم النار يوم القيامة رجلا تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، فقال له: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، فيقال له: كذبت! ولكن تعلمت العلم ليقال عالم وقد قيل! ثم يؤمر به، فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.
وقد توعد المعصوم (ص)بالنار من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه!
قال (ص) (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك، فالنار النار!!)
ومن هنا يبدو الفارق بين علوم الآخرة التي يجب تجريد القصد فيها لله جل وعلا، وبين سائر العلوم التي إن أحسن النية فيها أثيب، وإن ذهل عن ذلك فإنه لا يؤجر ولا يؤزر!
وقد أخرج الدارمي عن عبد الله بن مسعود قوله: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة! قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن! قال: إذا كثر قراؤكم وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة)
ويقول الخطيب البغدادي في نصيحته لطلبة العلم: (وليحذر أن يجعله سبيلا إلى نيل الأعراض، وطريقا إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه)
وقد جاء في مقدمة التمهيد للحافظ بن عبد البر: قيل للإمام مالك بعد أن كتب كتابه الموطأ: شغلت نفسك بهذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله فقال: (لتعلمن إنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله) قال الراوي: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع لشيء منها بعد ذلك بذكر."
وحكاية النية الصالحة هى للكبار وأما الصغار الذين يذهب بهم للتعلم فلا نية لهم
ثم تحدث عن ألأدب قبل طلب العلن فقال :
"الأدب قبل الطلب
والأدب ملكة تعصم من قامت به عما يشينه، فهو استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وقد عرفه ابن المبارك بقوله: إنه معرفة النفس ورعوناتها، وتجنب تلك الرعونات، ومن فضيلته أنه ممدوح بكل لسان، ومتزين به في كل مكان، وباق ذكره على أيام الزمان، ومن شرفه أن أهله متبوعون والناس تحت راياتهم، فيعطف ربك تعالى عليهم قلوبا لا تعطفها الأرحام! وتجتمع بهم كلمة لا تأتلف بالغلبة، وتبذل دونهم مهج النفوس، وقد اهتم سلفنا الصالح بالأدب اهتماما خاصا، وحثوا ع! لى تعلمه وسلوك طريقه، وكانوا يقولون من قعد به حسبه نهض به أدبه، والعقل بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب كالشجر المثمر، بل اعتبروه خيرا من كثير من العمل، يقول القرافي في الفروق: (واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العلم، ولذلك قال رويم لابنه: يابني: اجعل عملك ملحا، وأدبك دقيقا، - أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته إلى عملك كنسبة الدقيق إلى الملح في العجين - وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من العمل مع قلة الأدب) وقد قيل للشافعي كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه، مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعا فتنعم به! وقيل: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره!
وقد اشتهر لدى سلفنا الصالح إرسال أبنائهم في باكورة حياتهم إلى مؤدبين لحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة من ناحية، ولتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن من ناحية أخرى، فإذا بلغوا سن التكليف أحضروهم مجالس بعض العلماء ليقتدوا بهم في الهدي والسمت والعبادة، وذلك قبل أن يخرجوهم إلى حلق العلم، فإن من أدب صغيرا قرت عينه كبيرا، ومن أدب ابنه أرغم أنف عدوه! ولله در القائل
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
يذكر الحافظ الذهبي أن المأمون كان قد عهد إلى الفراء بتربية ولديه يلقنهما النحو، فأراد القيام، فابتدرا إلى نعله، فقدم كل واحد منهما فردة، فبلغ ذلك المأمون، فقال: لن يكبر الرجل عن تواضعه لسلطانه وأبيه ومعلمه!
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس رعة، وأحسنهم أدبا، وجنبهم السفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس رعة وأسوأهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا، وليمصوا الماء مصا، ولا يعبوه عبا، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إذ الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا، وإذا ولوا أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب! واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب.
ويقول الإمام مالك : كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، ويقول عبد الله بن المبارك: (كانوا يطلبون الأدب ثم العلم) ويقول أيضا: (كاد الأدب يكون ثلثي العلم) ويقول أبو زكريا العنبري: (: (علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسد بلا روح)، ويقول سفيان بن سعيد الثوري: (ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة!)
ولا شك أن الحرمان من الأدب آية شقاوة وخذلان، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، وما استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب، لقد كان أدب مع الوالدين في قصة الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة طوق نجاة، وكان أدب الصديق مع النبي (ص)في الصلاة، وإحجامه عن أن يتقدم بين يديه قائلا: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله (ص)سببا في إرثه لمقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر منه إلى الوراء ليتقدم رسول الله (ص)سببا في جعله في طليعة الأمة بعد النبي (ص)وقفزا به إلى الأمام بعيدا بعيدا إلى غايات تنقطع دونها أعناق المطي! وكان الإخلال به في قصة جريج – على الرغم من التأويل – سببا في بلائه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة!
رضا البطاوى غير متصل   الرد مع إقتباس