2ـ لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال الله تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}
3ـ وأما قلة علمهم فذالك لقلة مجالستهم لأهل الإيمان؛ وبعدهم عن مشاهدة التنزيل، فعن الأعمش، عن إبراهيم قال(جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد، فقال والله إنّ حديثك ليعجبني، وإن يدك لَتُرِيبُني! فقال زيد وما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي والله ما أدري، اليمينَ يقطعون أم الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله(الأعرابُ أشدُّ كفرًا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزلَ الله على رسوله) وفي الحديث الذي روته عائشة قدم ناس من الأعراب على رسول الله (ص) فقالوا أتقبلون صبيانكم؟ قالوا نعم قالوا ولكنا والله ما نقبل فقال رسول الله (ص)" وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟ "
وقال الرازي"إن الله حكم على الأعراب بحكمين:
الحكم الأول الأول أن أهل البدو يشبهون الوحوش والثاني استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم، والثالث أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط فنشؤا كما شاؤوا، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً والرابع أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساويا لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره والخامس قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية
الحكم الثاني قوله{وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله}، وقوله{أجدر} أي أولى وأحق، وفي الآية حذف، والتقدير وأجدر بأن لا يعلموا وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام وقيل مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد {والله عليم} بما في قلوب خلقه {حكيم}، فيما فرض من فرائضه " "
وهذا التفسير خاطىء فالسبب هوز كفرهم ونفاقهم وأما أجدر ألا يعلموا فليست سببا وإنما هو أمر للنبى(ص) والمسلمين بعدم اجهاد أنفسهم فى تعليمهم بقية أحكام الإسلام
وتحدث عن صفات الأعراب فقال:
"الفصل الثاني صفات الأعراب في قوله تعالى:
{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر}
المبحث الأول تفسير تحليلي لآية{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر}
قال النسفي" {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق}، في الجهاد والصدقات {قربات} أسباباً للقربة، {عند الله}، وهو مفعول ثان ليتخذ {وصلوات الرسول}، أي دعاءه لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم كقوله اللهم صل على آل أبى أوفى، {ألا إنها} أي النفقة، أو صلوات الرسول، {قربة لهم} قربة نافع وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه، والتحقيق المؤذين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك سيدخلهم الله في رحمته أي جنته وما فى السين من تحقيق الوعد وما دل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين وأن لصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها إن الله غفور يستر عيب المخل رحيم يقبل جهد المقل
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً، بين أيضا أن فيهم قوما مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنما"
وقال ابن كثير "وقوله{وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}، هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} أي ألا إن ذلك حاصل لهم، {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} "
قال ابن عباس{صلوات الرسول}، هي استغفاره لهم وقال قتادة أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جريا على الحقيقة اللغوية، أو لأن الدعاء فيها
وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال(آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهوراً)، والضمير في أنها قيل عائد على الصلوات وقيل عائد على النفقات وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها، والمعنى قربة لهم عند الله وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه، وهو ألا وحرف التوكيد وهو أن
قال الزمخشري وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها "
قلت هذا دليل على ترغيب الأعراب بالنفقة وخاصة وقت الشدة، فالأعرابي بطبعه البيئي يتحمل الجوائح أكثر من الحضري ومهما وصل الإنسان الحضري لخط الجوع فالأعرابي أحسن حالا وأيسر مؤنةً فكان الامتثال لله ورسوله قربة "
وتحدث الباحث عن كون ذم الأعراب متعلق بصفتهم أم بجنسهم فقال :
"المبحث الثاني هل الذم متعلق بالصفة أم بجنس الأعراب؟
وقوفاً عند الآية السابقة فإن الله تعالى قدم الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ولكن لا يستدل بهذه الآية على كل أعرابي، حيث إنه تعالى قال{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم}
ومما يلحظ بعد تفسير هذه الآية أن عطف الله تعالى هذه على ما قبلها هو بيان أن الذم تعلق بصفات الأعراب لا بجنسهم
قال الرازي"اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً، بين أيضاً أن فيهم قوما مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنما"
قال ابن سعدي"وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه"
قلت كلام العلامة ابن سعدي ليس على إطلاقه فتعربهم وباديتهم في الغالب سبب لتركهم أوامر الله وبعدهم عنها ولذا كانوا أغلظ طباعاً وأشد جفاء، لحديث من سكن البادية جفا، فعن وهب بن منبه عن ابن عباس، عن النبي (ص) قال(من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن) فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً"
وهذه الرواية باطلة لأنها اتهام لكل البدو بالكفر وهو ما يكذب كونه بعضهم كما ذكر الله مؤمنون
وقد ذكر بعض مميزات الأعراب فقال :
"المبحث الثالث ذكر بعض الصفات التي تميز بها الأعراب عن غيرهم:
تميز الأعراب ببعض الصفات التي وهبها الله لهم ووصفهم بها رسوله , ولاشك أنها من الفخر عندهم بمكان فهو وصف من الله ورسوله (ص)
وهذا يعني عدم التعالي ولا افتخار على غيرهم فذكر محاسن القوم هو من باب الاحتراز فقط، أما استغلال ذلك والانغماس في عادات الجاهلية فهذا الأمر لا يتحدث عنه إلا من نقص عقله ودينه، والاحتراز كما ذكره العلامة ابن عثيمين ، وهو أن يتكلم الإنسان كلاماً يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين، ومثال ذلك في القرآن قوله تبارك وتعالى{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}
لما كان قوله{أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} يوهم أن الآخرين ليس لهم حظ من هذا، قال{وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}
ومن ذلك قوله تعالى{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
لما كان هذا يوهم أن داود عنده نقص، قال تعالى{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما}
|